في الوقت الذي تغرق فيه آلاف الأسر في محافظات الدلتا تحت وطأة الفيضانات وخسائر المحاصيل وتدمير المنازل، اختارت حكومة الانقلاب الردّ على الكارثة بالجرافات والقمع الإداري بدلًا من الدعم والتعويض والإغاثة.
فقد أعلنت وزارة التنمية المحلية تنفيذ 114 قرار إزالة فورية لمنازل مزارعين فوق أراضي طرح النهر بمحافظة المنوفية وحدها خلال 48 ساعة فقط، ضمن حملة عشوائية قاسية تُنفَّذ بلا وعي اجتماعي ولا مسؤولية إنسانية، وكأن الدولة تنتقم من المواطنين لا تحميهم.
الحكومة التي فشلت في إدارة أزمة الفيضانات، والتي تسببت بسياساتها وقراراتها في غرق آلاف الأفدنة من المحاصيل الحيوية، تحاول اليوم تحميل الضحايا مسؤولية الكارثة، متهمة إياهم بـ"التعدي على أراضي الدولة"، بينما الحقيقة أن هؤلاء السكان يعيشون على الأرض منذ عشرات السنين قبل أن تتحول الدولة إلى مقاول هدم لخدمة المستثمرين والمصالح الضيقة.
هدم المنازل بدل التعويض: عقاب جماعي لأفقر الفئات
بحسب بيان الوزارة، جاءت عمليات الإزالة تنفيذًا لتكليف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في اجتماع مجلس المحافظين رقم 60، ضمن الجولة الـ27 لإزالة التعديات.
لكن ما لم يقله البيان هو أن كثيرًا من هذه المنازل والمزارع هي مصدر رزق وحيد لمئات الأسر التي فقدت كل شيء تحت المياه قبل أسابيع، نتيجة قرار حكومي بفتح بوابات السد العالي دون استعدادات كافية للتعامل مع الفيضانات القادمة من إثيوبيا والسودان.
بدل توفير مساكن بديلة أو تعويضات مناسبة أو حتى خطة إنقاذ زراعية، اختارت الحكومة الطريق الأسهل:
هدم البيوت على رؤوس أصحابها واتهامهم جميعًا بأنهم مخالفون.
الإنكار الرسمي وشيطنة الضحايا
مع تصاعد الغضب الشعبي، خصوصًا بعد غرق حوالي 1,124 فدانًا في المنوفية وحدها وتدمير محاصيل أساسية مثل الفراولة والفاصوليا والسمسم والذرة والأرز، لم تعترف الحكومة بأي مسؤولية عن الإهمال أو تقصير خطط الطوارئ.
بل على العكس، اكتفت بالقول إن السكان "متعدون على أملاك الدولة"، في محاولة لإغلاق الملف أخلاقيًا وإعفاء نفسها من أي التزام تجاه المواطنين.
وصل الأمر إلى أن رئيس الوزراء صرّح بأن "من الطبيعي أن يحدث غمر للمباني كل عام"، وكأن الكارثة ظاهرة موسمية عادية لا علاقة للدولة بها.
المفارقة أن الحكومة طالبت المتضررين بإخلاء مناطقهم وحماية ممتلكاتهم، لكنها لم تقدّم مأوى أو تعويضًا أو خطة دعم واحدة.
أي عدالة هذه التي تلوم المزارع الذي فقد أرضه وبيته، بينما تُنفق المليارات على مشاريع ترفيّة واستعراضات وهمية بدل حماية الناس؟
تواطؤ إداري وغياب التخطيط
إذا كان الهدف حماية مجرى النيل، فلماذا لم تتحرك الدولة قبل وقوع الكارثة؟
لماذا لم يتم تركيب سدود حماية أو تنظيم تصريف المياه أو وضع خطط انتقال تدريجي؟
لماذا تُنفَّذ الإزالات تحت حماية الأمن بدل الحوار؟
ولماذا لم تشهد المحافظات المتضررة أي زيارة رسمية من وزير مسؤول يستمع للناس بدل الحديث من خلف مكاتب مكيفة؟
ما يحدث ليس إدارة أزمة، بل تغطية على فشل إداري كارثي تتحمل مسؤوليته الحكومة بالكامل.
دولة تهدم الفقراء لتبقى الواجهة نظيفة أمام المستثمرين
حملة الإزالات الأخيرة تكشف وجهًا قاسيًا ومُظلمًا لحكومة لا تهتم بالإنسان، ولا تحترم حقوق السكان، ولا ترى في المواطن سوى عبء يجب التخلص منه.
الدولة التي تدعي حماية البيئة والنهر هي ذاتها التي تركت الناس يغرقون دون إنقاذ، ثم عادت لتهدم منازلهم فوق رؤوسهم وتتهمهم بأنهم معتدون على القانون.
في مصر اليوم، السلطة تهدم بيوت الفقراء بينما تبني القصور وتروج شعارات براقة عن الإنجاز والنهضة.
والنتيجة: وطن يُدار بالجرافات بدل العقل، وبالإنكار بدل المسؤولية.

