في توقيت بالغ الحساسية، ومع طي صفحة الحرب الطاحنة التي عصفت بقطاع غزة، تتجه الأنظار الإقليمية والدولية نحو الأروقة الداخلية لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي تستعد لإجراء استحقاق انتخابي داخلي حاسم. الهدف من هذا الحراك هو ملء الشغور الرسمي في منصب رئيس المكتب السياسي العام، الذي ظل فارغاً "نظرياً" منذ اغتيال القائد يحيى السنوار في أكتوبر 2024، رغم وجود قيادة مؤقتة أدارت المشهد خلال الأشهر الماضية.
مصادر مسؤولة داخل الحركة كشفت عن تبلور المشهد الانتخابي حول ثلاثة أسماء من العيار الثقيل، يمثل كل منها تياراً ومرحلة تاريخية في مسيرة الحركة. وتأتي هذه الانتخابات لتعيد ترتيب البيت الداخلي لحماس بعد "طوفان الأقصى" وتداعياته، ولرسم ملامح السياسة القادمة للتعامل مع ملفات الإعمار والتهدئة والعلاقات الدولية.
الأسماء المطروحة هي: خليل الحية، الرجل القوي في غزة حالياً، وخالد مشعل، الزعيم التاريخي للحركة، ومحمد درويش، الشخصية التنظيمية الأبرز. وتشير التسريبات إلى أن الكفة تميل بوضوح لصالح خليل الحية، في ظل توافق واسع داخل أطر الحركة ومؤسساتها الشورية.
خليل الحية.. رجل "التوافق" والدماء والسياسة
يتصدر خليل الحية (مواليد غزة 1960) المشهد كأبرز المرشحين لخلافة السنوار، مدعوماً برصيد ميداني وسياسي ضخم. الحية، الذي يشغل حالياً عضوية المجلس القيادي الخماسي، لم يكن بعيداً عن دائرة القرار، بل كان هو "الدينامو" المحرك لملفات الحركة المعقدة عقب اغتيال السنوار، حيث تولى إدارة شؤون غزة وقاد وفود التفاوض في أحلك الظروف.
يُنظر إلى الحية باعتباره نقطة التقاء نادرة بين "صقور" الحركة و"حمائمها"؛ فهو ابن التنظيم المؤسس منذ عام 1987 ورفيق درب الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي، وتجمعه علاقات وثيقة بالجناح العسكري، وفي الوقت ذاته يُعرف بميوله للحلول السياسية الواقعية. علاقاته المتينة مع طهران جعلته محوراً للاتصال بمحور المقاومة، بينما أهّلته مرونته السياسية لقيادة جولات التفاوض غير المباشر مع الاحتلال، مساهماً في التوصل لاتفاقات تهدئة سابقة وحالية.
ما يعزز رصيد الحية الشعبي والتنظيمي هو الثمن الشخصي الفادح الذي دفعه؛ فمن استهداف منزله في حي الشجاعية عام 2007 واستشهاد أقاربه، إلى فقدان نجله الأكبر أسامة وعائلته في حرب 2014، وصولاً إلى استشهاد نجله "همام" في الهجوم الصاروخي الأخير بالدوحة في سبتمبر 2025. هذه التضحيات تمنحه "شرعية الدم" التي تحظى بتقدير كبير داخل القواعد التنظيمية للحركة.
خالد مشعل.. خبرة "الخارج" والعودة للواجهة
الاسم الثاني في المعادلة هو خالد مشعل (مواليد 1956)، الرئيس السابق للمكتب السياسي وأحد الآباء المؤسسين للحركة. يمثل مشعل ثقل "الخارج" والخبرة الدبلوماسية العريقة التي راكمها خلال قيادته للحركة من 1996 وحتى 2017. نجاته من محاولة اغتيال شهيرة بالموساد في الأردن عام 1997 منحته شهرة عالمية وحصانة رمزية.
مشعل، الذي يتخذ من الدوحة مقراً له، قاد الحركة في منعطفات تاريخية كبرى، مثل الفوز بالانتخابات التشريعية عام 2006 ومرحلة الانقسام عام 2007. وجود اسمه ضمن المرشحين يعكس رغبة تيار داخل الحركة في استعادة "الكاريزما" السياسية القادرة على مخاطبة المجتمع الدولي والعواصم العربية، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار التي تتطلب انفتاحاً دبلوماسياً واسعاً قد يكون مشعل أقدر على هندسته بحكم علاقاته القديمة والمتشعبة.
محمد درويش.. "رجل الظل" والمؤسسات
الضلع الثالث في المثلث القيادي هو محمد إسماعيل درويش (أبو عمر حسن)، الشخصية التي لطالما عملت بعيداً عن الأضواء قبل أن تفرضها الأحداث الأخيرة. درويش (مواليد لبنان 1962) يمثل المؤسسة التنظيمية الصلبة بصفته رئيساً لمجلس الشورى العام، الهيئة التشريعية الأعلى في الحركة. توليه رئاسة اللجنة القيادية الخماسية المؤقتة بعد اغتيال السنوار أثبت قدرته على الإمساك بخيوط التنظيم في أصعب المراحل.
درويش ليس مجرد إداري، بل انخرط بقوة في الحراك الدبلوماسي مؤخراً، من خلال لقاءاته مع الرئيس التركي ووزير الخارجية الإيراني، وزيارته لطهران لبحث دعم المقاومة. تعرضه لمحاولة الاغتيال في الدوحة في سبتمبر 2025، أثناء اجتماع خاص بمفاوضات وقف الحرب، أكد أنه بات هدفاً استراتيجياً للاحتلال، مما رفع من أسهمه كقائد يجمع بين العمل السياسي والاستهداف الأمني. وجوده كمرشح يعكس قوة "تيار المؤسسة" الذي يفضل القيادة الجماعية والعمل التنظيمي المنضبط.
ملامح المرحلة المقبلة
أيًا كان الفائز في هذا السباق الداخلي، فإن المهمة التي تنتظره ستكون من أثقل التركات في تاريخ الحركة. الرئيس الجديد سيرث قطاعاً مدمراً بحاجة إلى 70 مليار دولار للإعمار، وملفاً سياسياً شائكاً يتطلب الموازنة بين الحفاظ على سلاح المقاومة وبين الانخراط في مسارات سياسية قد تفرضها التسويات الدولية واتفاقات وقف إطلاق النار.
المؤشرات التي ترجح كفة خليل الحية تعني أن الحركة تتجه نحو خيار "الواقعية الثورية"؛ أي الحفاظ على التحالفات الإقليمية القوية (خاصة مع إيران) مع ترك الباب مفتوحاً للحلول السياسية، مستندة إلى قائد يمتلك الشرعية في غزة (مسقط رأسه) وفي الخارج (مقر إقامته الحالي)، وقادر على توحيد الصفوف بعد عاصفة الحرب.

