في هذا الشتاء، تبدو الخيمة الملطخة بالطين أكثر بلاغة من كل خُطب العالم. لا تحتاج إلى ميكروفون ولا منصة؛ فهي تصرخ وحدها، بينما الأرض تهتز تحت المطر، والبرد ينهش أجساد الأطفال كوحش لا يعرف رحمة… عقاب لا يدركون له سببًا ولا ذنبًا.
في غزة، المنخفض الجوي ليس حدثًا عابرًا في تقويم الفصول، بل صفحة جديدة من وجعٍ لا ينتهي. تمطر السماء، فتتكشّف الحقيقة: خيام مهترئة تستر بالكاد أصحابها، ومشهد إنساني يُغرقه الصمت العالمي… صمت عربي وإسلامي يُشبه الرياح العاتية في قسوته، لكنه أكثر فراغًا وبرودة.
ومع كل قطرة تهوي على القطاع، يزداد المشهد هشاشة. أكثر من مليون ونصف إنسان موزّعين في مخيمات بلا أرض ثابتة، بلا بنية، بلا أمان. خيام 93% منها لم تعد صالحة للحياة، بعضها نجا من النار ليعود ويغرق في الماء. ومع ذلك، ما يزال الاحتلال يمنع دخول خيمة تُدفئ طفلًا، أو شادرًا يحمي عجوزًا، وكأن حياة الناس خيط زائد في صفحة اتفاق لا أحد يقرأه بضمير.
وحين اشتدّ المنخفض وغرقت الخيام وارتفع النداء؛ بقي العالم خارج غزة منشغلًا بصيغ البيانات، مجاملات باردة لا ترفع ماءً ولا تكفّ بردًا… بينما في الداخل، ما تزال الخيام تصرخ، وما يزال الناس ينتظرون دفئًا يأتي ولا يأتي.
منازل مهددة بالانهيار
يقول المتحدث باسم الدفاع المدني بغزة محمود بصل: “تلقينا مئات المناشدات، لكن الإمكانيات معدومة، لا مكان للانتظار والتأخير في توزيع الخيام، وكل ثانية في غزة تعرض حياة المواطنين للخطر”.
ويحذّر بصل من أن المنازل المتصدعة والآيلة للسقوط باتت مهددة بالانهيار مع ازدياد قوة الرياح وغزارة الأمطار، مؤكدًا أن الطواقم تعمل فوق طاقتها، لكنها بحاجة إلى دعم ومعدات غير متوفرة.
البرد يقطع العظم
داخل إحدى الخيام، تجلس أم خالد الشافعي (42 عامًا) تحتضن طفلها الأصغر، وتروي بصوت متعب: “منذ الصباح والمطر يدخل إلى الخيمة، فرشنا النايلون تحت الفرش لكن ما فاد. الأولاد ما عندهم ملابس شتوية، والبرد يقطع العظم”.
وتضيف أن زوجها أمضى ساعات يحاول إحاطة الخيمة بسواتر من الرمال لمنع تسرب المياه، لكن الرياح القوية كانت تهدم كل ما يصنعه.
وفي خيمة في ساحة الجندي المجهول في مدينة غزة، كان أبو زكي رضوان (58 عامًا) يحاول تثبيت عمود خيمته باستخدام حبل جلبه من ساحة مدمرة قريبة.
يقول وهو يشير إلى السقف المهترئ: “هذه ليست خيامًا… هذا مجرد قماش لا يحمي من شيء. نحن نعيش هنا لأن لا بيت ولا جدار بقي لنا. المنخفض مش بس مطر، هو تهديد لحياتنا”.
تداعيات كارثية على النازحين
الأمم المتحدة نفسها أعلنت أن الأمطار “ستكون لها تداعيات كارثية على النازحين”، لكن التحذير بقي معلّقاً في الهواء، حيث كل شيء ينتظر إذناً من الاحتلال، حتى المأوى والدفء.
دعوات حركة “حماس” للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بالتدخل لإنهاء المأساة ليست جديدة، لكنها تزداد مرارةً كلما ازداد الطين الذي يغمر أرجل الأطفال.. الحركة تطلب موقفاً فعلياً، يستند إلى مواثيق ووعود قديمة، لكن الواقع يكشف أن الشتاء أسرع فعلاً من الدبلوماسية، وأن المياه التي تقتحم الخيام أكثر حضوراً من أي تحرّك عربي.
فالبيانات العربية لا يمكن استخدامها كحطب، ولا تصلح لتسقيف خيمة، ولا تمنع الأمطار من السقوط على أم رؤيتها الوحيدة لابنها ألا يستيقظ مرتجفاً في منتصف الليل.
أما العالم الواسع الذي يرفع شعار الإنسانية؛ فيبدو وكأنه ينظر إلى غزة من وراء زجاج سميك، يسمع الصوت ولا يتحسس الوجع. تتسرب الأخبار عن الغرق والمطر والبرد، والأطفال الذين يفترشون الأرض، ولا تتحرك سوى بعض المنظمات الدولية التي تصطدم بجدار المنع الإسرائيلي.. هناك فقط صمتٌ يشبه التواطؤ، وعجزٌ يقترب من التجاهل.
ومع غياب البدائل وضياع المأوى؛ يقف النازحون أمام كارثة لا يملكون صدّها. فالبنية التحتية مدمرة بنسبة 90 بالمئة، والخسائر تجاوزت 70 مليار دولار.. المطر لا يجد سقفاً فوق رؤوس الناس فينزل مباشرة على أطفالهم، على تعبهم، على خوفهم، كأنه يختبر قدرة البشر على الاحتمال.
وبينما يتكوم الناس فوق بعضهم في خيام غارقة؛ يبدو أن السؤال الحقيقي ليس عن المنخفض الجوي، إنما عن المنخفض الأخلاقي الذي يطوّق العالم كله.
هذا الشتاء ليس الأول الذي يمر على غزة منذ الحرب في 7 أكتوبر 2023، لكنه الأكثر قسوة؛ لأنه يأتي بعد حرب أبادة استمرت عامين، وانتهت نظرياً بوقف إطلاق نار، بينما ظلت آثارها تنهش الحياة اليومية للناس.
وفي مواجهة هذا البرد؛ يبدو العالم منشغلاً بما هو أقل، والعرب مشغولون بما هو أبعد، والمسلمون يراقبون من بعيد، تاركين غزة تحت المطر، تواجه وحدها المنخفض والاحتلال، وتكمل سردية الصمود التي لم يكتبها أحدُ نيابة عنهم.
في النهاية؛ تبقى غزة وحدها في وجه العاصفة.. لكنها الوحيدة أيضاً التي لم يسقط صوتها بعد.

