مرة أخرى، يتحول طريق صحراوي في مصر إلى مسرح دموي لحادث مأساوي يطال أطفالًا وشبابًا في مقتبل العمر، بينما تكتفي الحكومة بالتصريحات الإنشائية والتحقيقات الشكلية. حادث انقلاب الأتوبيس على طريق إسنا الصحراوي الغربي بالأقصر، والذي أسفر عن مقتل شخصين وإصابة 24 آخرين معظمهم طلاب مدارس، ليس حادثًا عابرًا، بل جرس إنذار صارخ يكشف الانهيار الكامل لمنظومة النقل والطرق، وفشل الدولة في حماية حياة مواطنيها. وفي ظل استمرار هذا النزيف البشري، تبدو حكومة الانقلاب عاجزة أو غير مهتمة، ما يجعل الشعب المصري أمام كارثة أخلاقية قبل أن تكون كارثة مرورية.
مأساة جديدة تدفع ثمن الإهمال
شهد صباح السبت 15 نوفمبر 2025 انقلاب أتوبيس رحلات يقل طلابًا في طريق عودتهم إلى أسوان بعد مشاركتهم في ملتقى الطفل بالإسماعيلية. انقلب الأتوبيس على الطريق الصحراوي الغربي بإسنا، فتبعثرت الكتب وحقائب الطلاب فوق الأسفلت، وتحول الفرح الطلابي إلى فاجعة.
النتيجة: مصرع اثنين بينهم المشرفة المرافقة، وإصابة 23 طالبًا. معظمهم أطفال لم تتجاوز أحلامهم حدود مقاعد الدراسة.
والسؤال الذي يتكرر كل مرة: إلى متى تستمر هذه السلسلة السوداء؟ ولماذا لا تتحرك الحكومة إلا بعد أن يموت الناس؟
وفاة شخصين وإصابة 24 آخرين في حادث انقلاب أتوبيس سياحي يقل طلابًا من أسوان على الطريق الصحراوي الغربي بإسنا في الأقصر بحسب ما ورد في صحف محلية pic.twitter.com/UMkWizi5Sm
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) November 15, 2025
منظومة طرق متهالكة وغياب رقابة حكومية
الحديث الرسمي الأولي عن “سرعة زائدة” أو “خطأ سائق” مجرد محاولة مكررة لإغلاق الملف قبل فتحه.
الحقيقة أن الطرق المصرية، خاصة الصحراوية منها، أصبحت مصائد موت يومية، لا إنارة ولا كاميرات رقابة ولا وحدات طوارئ مجهزة ولا تخطيط هندسي آمن.
أين ملايين الجنيهات التي أعلنت الحكومة تخصيصها كل عام لتطوير الطرق؟
أين صيانة الطرق التي تتفاخر الدولة بأنها “الأعظم في التاريخ” بينما يحصد الموت أرواح الأبرياء كل أسبوع؟
الحكومة أسرع في افتتاح العروض الإعلامية والجسور الاستعراضية من إصلاح شبكة طرق تنهار يومًا بعد يوم.
ضحايا جدد.. ولا محاسبة
قبل يومين فقط من حادث اليوم، شهد الطريق نفسه حادثًا آخر أودى بحياة 8 أشخاص بعد تصادم ميكروباص مع سيارة نقل ثقيل. ومع ذلك، لم تُتخذ أي إجراءات، ولم تُرسل لجنة طوارئ، ولم يُغلق الطريق لإعادة تقييم خطورته.
ما الذي تنتظره الحكومة؟ كارثة أكبر؟ عشرات الجثث بدلاً من اثنين؟ أم أن حياة المصريين بلا قيمة ما داموا لا يظهرون في قائمة الحضور الرسمية على المنصات الإعلامية؟
في كل دولة تحترم الإنسان، حادث واحد كهذا كان كافيًا لإقالة وزراء ومحاكمة مسؤولين ومعالجة جذور الأزمة، لكن في مصر تحت حكم الانقلاب، الحوادث تتحول إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار.
طوارئ شكلية وتحقيقات بلا نتائج
دفعت هيئة الإسعاف بـ15 سيارة إلى موقع الحادث، وتم نقل المصابين للمستشفيات، لكن بعد ذلك؟
تبدأ النيابة التحقيق “لتحديد أسباب الحادث”. يمكن توقّع النهاية مسبقًا: خطأ سائق، سرعة زائدة، إغلاق الملف.
لم نسمع يومًا عن محاكمة مسؤول حكومي واحد بسبب الفشل في تأمين الطرق أو التخطيط السيئ أو ترك مسارات مدمرة بلا صيانة.
هذه ليست عدالة، بل هروب رسمي من المسؤولية.
أطفال يدفعون الثمن.. ودولة بلا ضمير
الأطفال المصابون الآن على أسرّة المستشفيات كانوا في رحلة تعليمية، لا على طريق موت.
كيف يمكن لدولة تُنفق مليارات على القصور، والعروض العسكرية، والمهرجانات الاستعراضية، أن تعجز عن تأمين طريق واحد في بلد تزيد فيه وفيات الحوادث عن 12 ألف شخص سنويًا؟
كيف نفهم أن بلدًا يمتلك واحدًا من أعلى معدلات الجباية والضرائب في الشرق الأوسط لا يجد ميزانية لصيانة الطرق والحافلات المدرسية؟
لن تتوقف المآسي ما دامت السلطة بلا محاسبة
حادث إسنا ليس استثناءً، بل نتيجة طبيعية لحكم لا يضع حياة الناس في أولوياته.
طالما بقيت الدولة بلا رقابة، والمسؤول بلا محاسبة، والفساد بلا حساب، سيستمر موت المصريين في الطرق، وفي المستشفيات، وفي المدارس، وفي كل مكان.
دماء الأطفال على الأسفلت أكبر من مجرد حادث مروري؛ إنها شهادة دامغة على دولة فقدت إنسانيتها.

