أثارت قضية طلاب كلية الهندسة بجامعة أسيوط جدلًا واسعًا خلال الأسابيع الماضية، بعدما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي خبر القبض على ثلاثة شباب—أحدهم مهندس حديث التخرج—بتهمة تصنيع طائرة من دون طيار (درون) ضمن مشروع تخرجهم.
ورغم أن المشروع كان جزءًا رسميًا من المتطلبات الأكاديمية للكلية، فإن المتهمين خضعوا لتحقيقات مطولة وأحكام قاسية وصلت إلى عشر سنوات في البداية، قبل أن تُخفَّف لاحقًا إلى خمس سنوات قضوها بالفعل داخل السجن. وقد تحوّلت القضية، التي بدأت كمشروع جامعي عادي، إلى رمز للصراع بين طموح الشباب في الابتكار والقيود الأمنية والبيروقراطية التي تعيق البحث العلمي في مصر.
هذه الواقعة، بتفاصيلها وما أثارته من ردود فعل، كشفت عن تناقض واضح بين الخطاب الرسمي الذي يشجع الإبداع العلمي من جهة، والواقع العملي الذي يخضع فيه الباحثون والطلاب لسلسلة من العقبات والمخاطر، قد تصل في بعض الحالات إلى تهم جنائية تهدد مستقبلهم المهني والشخصي.
تفاصيل القضية ومسار التقاضي
بدأت الأزمة حين اكتشفت الأجهزة الأمنية أن مجموعة من طلاب كلية الهندسة يعملون على تصميم وتصنيع طائرة درون ضمن مشروع تخرجهم. ورغم أن المشروع كان معلنًا ومعتمدًا من أساتذة الكلية، فقد تم القبض على الطلاب الثلاثة، وتوجيه اتهامات خطيرة إليهم تتعلق بالإضرار بالأمن القومي، باعتبار أن تصنيع الدرون نشاط حساس قد يُستخدم لأغراض مريبة.
على مدار التحقيق، أصر فريق الدفاع—الذي ضم أسماء بارزة مثل خالد المصري وأشرف شعيب ومصطفى الدميري وغيرهم—على أن المشروع أكاديمي بحت، وأن الطلاب لم يتجاوزوا حدود التكليف الجامعي. لكن المفارقة أن الكلية نفسها رفضت في البداية تقديم إفادة رسمية تؤكد أن تصنيع الطائرة كان جزءًا من مشروع التخرج، وهو ما زاد الوضع تعقيدًا وأعطى مبررًا لاستمرار إجراءات الاتهام.
وبعد أشهر من المماطلة، حصلت النيابة على شهادة رسمية من كلية الهندسة تفيد بأن مشروع تصنيع الطائرة كان جزءًا من متطلبات التخرج، وأن الطلاب عملوا تحت إشراف أكاديمي مباشر. ورغم هذه الوثيقة التي كان من المفترض أن تعيد الأمور إلى نصابها، فقد صدر الحكم الابتدائي بسجن الطلاب عشر سنوات، ثم أيّدته محكمة الاستئناف، قبل أن تُخفف محكمة النقض العقوبة إلى خمس سنوات فقط، وهي المدة التي انتهت بالفعل خلال فترة احتجازهم.
ورأى مراقبون أن هذا المسار القضائي المعقّد، رغم وضوح الجانب الأكاديمي للمشروع، يعكس خللًا واضحًا في فهم الأنشطة العلمية والتقنية داخل المنظومة القانونية والأمنية، ويطرح أسئلة مهمة حول مستقبل البحث العلمي في البلاد.
القيود التي تحاصر البحث العلمي والابتكار في مصر
ليست قضية طلاب أسيوط حادثة منعزلة، بل هي نموذج مصغر لما يعانيه قطاع البحث العلمي في مصر من تحديات هيكلية وأمنية وبيروقراطية. ويمكن تحديد أبرز هذه القيود في أربعة محاور:
- الرقابة الأمنية المشددة
أي مشروع بحثي يمكن أن يرتبط—ولو بشكل بعيد—بمفاهيم مثل الأمن القومي أو التكنولوجيا الحساسة يصبح محل تدقيق شديد. تصنيع الدرون، الأبحاث النووية، تقنيات الأمن السيبراني، وحتى بعض الأنظمة الإلكترونية المتقدمة، كلها تُعامل بحذر بالغ. وقد يؤدي ذلك في بعض الحالات إلى اعتبار الأبحاث الأكاديمية تهديدًا محتملًا بدلًا من كونها فرصة للابتكار.
- ضعف التمويل الموجّه للبحث العلمي
تُظهر الإحصائيات أن الإنفاق الحكومي على البحث العلمي في مصر لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي، وهو رقم متدنٍّ مقارنة بالمعايير الدولية. هذا الضعف في التمويل يدفع الباحثين للاعتماد على موارد محدودة، أو البحث عن مصادر خارجية، ما قد يعرّضهم لمزيد من التدقيق الأمني.
- غياب الحماية المؤسسية للباحثين
لا توفر الجامعات دائمًا الغطاء القانوني أو الإداري الكافي لحماية الطلاب والباحثين عند تعرضهم لأي ملاحقة أو سوء فهم يتعلق بطبيعة أبحاثهم. ويؤدي ذلك إلى زيادة المخاطر الشخصية، ويجعل الطالب أو الباحث في مواجهة مباشرة مع الأجهزة الأمنية دون دعم كافٍ من مؤسسته التعليمية.
- البيروقراطية والرقابة المؤسسية
تُعد الإجراءات البيروقراطية الطويلة وغياب الشفافية في إدارة المشاريع العلمية أحد أكبر العوائق أمام الابتكار. ففي كثير من الأحيان، تُفضّل المؤسسات الجامعية تجنب المشكلات الأمنية حتى لو كان ذلك على حساب الباحثين وحقوقهم الأكاديمية.
ردود الفعل الشعبية والسياسية
أثارت القضية تعاطفًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر كثيرون أن ما حدث يمثل ظلمًا صارخًا يهدد استقرار البيئة العلمية في البلاد. كتب الصحفي أحمد سمير في منشور لاقى انتشارًا كبيرًا أن "في بلد طبيعي، كانوا سيُعاملون ككنز علمي، لكن هنا يُسجنون لأنهم ابتكروا". كما وصف حزب "تكنوقراط مصر" الحكم بأنه "سجن خمس سنوات بتهمة العبقرية".
من ناحية أخرى، حاولت بعض الأصوات التقليل من حجم الأزمة، مشيرة إلى أن القضية أكثر تعقيدًا مما يتم تداوله على مواقع التواصل، وأن المحكمة اعتمدت على حيثيات تتعلق بـ"الاستخدام المحتمل" للطائرة وليس تصنيعها بحد ذاته. لكن هذه الأصوات بقيت محدودة أمام موجة الغضب الشعبي.
التداعيات الأوسع على مستقبل البحث العلمي
- هجرة الكفاءات
تدفع هذه الحوادث عددًا متزايدًا من الباحثين الشباب إلى التفكير في الهجرة، بحثًا عن بيئة علمية آمنة تتيح لهم تطوير مشاريعهم دون خوف من الملاحقة.
- انخفاض جودة الأبحاث
نقص التمويل والقيود الأمنية والبيروقراطية يؤدي إلى أبحاث أقل جرأة وابتكارًا، ويُضعف قدرة الجامعات المصرية على المنافسة عالميًا.
- تآكل المناخ الإبداعي
عندما يشعر الطالب بأن خطوة بسيطة مثل مشروع تخرج قد تضعه في السجن، فإن الرسالة التي يتم بثها إلى المجتمع واضحة: الابتكار مخاطرة، والأفضل الابتعاد عنه.
وأخيرا فإن قضية طلاب كلية الهندسة بجامعة أسيوط هي أكثر من مجرد محاكمة لثلاثة شباب؛ إنها مرآة لواقع يواجه فيه الباحثون المصريون تحديات تفوق بكثير ما يجب أن يتحمله أي مجتمع يسعى للتطور العلمي والتكنولوجي.
وتكشف هذه القضية عن الحاجة الملحة لإعادة النظر في الإطار القانوني والتنظيمي للأبحاث العلمية، وتوفير حماية حقيقية للطلاب والباحثين، وتشجيع بيئة تسمح لهم بالإبداع دون خوف أو تهديد.
فبناء مستقبل معرفي مزدهر يبدأ بضمان حرية البحث العلمي، واحترام المبدعين، وتقدير جهود الشباب الذين يسعون لأن تكون مصر في مكانها المستحق بين الأمم المتقدمة.

