في خطوة حكومية جديدة تعمق جراح الفئات الأكثر فقرًا، أصدرت محافظتا القاهرة والجيزة قرارات صارمة بحظر سير مركبات "التوك توك" في الشوارع الرئيسية والمحاور الحيوية، مع فرض غرامات مالية باهظة ومصادرة فورية للمركبات المخالفة. هذا القرار، الذي برره المسؤولون بـ"الحفاظ على المظهر الحضاري"، نزل كالصاعقة على آلاف الأسر التي لا تملك قوت يومها إلا من خلال هذه المركبات، لتتحول شوارع المحروسة إلى ساحة مفتوحة لصرخات الغلابة الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل وبلا دخل في ظل ظروف اقتصادية طاحنة.

 

https://www.tiktok.com/@megaphonenews/video/7525547488497995015

 

خنق الفقراء بقرارات "المكاتب المكيفة"

 

بدأت الأجهزة التنفيذية في نوفمبر 2025 تنفيذ حملات موسعة لمنع "التوك توك" من السير في محاور رئيسية مثل كورنيش النيل، وصلاح سالم، وجسر السويس، ومداخل القاهرة الكبرى. ولم تكتفِ الحكومة بالمنع، بل فرضت غرامات تصل إلى 3000 جنيه (تشمل رسوم إيواء ونقل)، وهو مبلغ يعادل دخل السائق في شهر كامل من الشقاء، مما يجعل استرداد المركبة أمرًا مستحيلًا بالنسبة للكثيرين.

 

 

هذه القرارات التي تصدر من "المكاتب المكيفة" تجاهلت تمامًا الواقع المرير؛ فالتوك توك لم يعد مجرد وسيلة مواصلات عشوائية، بل هو اقتصاد كامل تعتمد عليه ملايين الأسر في العشوائيات والقرى لسد رمقهم، في ظل فشل الدولة في توفير وظائف بديلة أو شبكة حماية اجتماعية حقيقية.

 

صرخات الغلابة: "ناكل منين؟"

 

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات واستغاثات لسائقين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة الغلاء وسندان الحكومة. في أحد الفيديوهات المتداولة، يصرخ سائق بمرارة موجهًا رسالة غاضبة للمسؤولين: "أنا فاتح بيت وعندي عيال، لما تاخد التوك توك مني أشتغل إيه؟ أسرق؟". هذه الصرخة ليست حالة فردية، بل تعبر عن لسان حال قطاع واسع يرى في هذه الحملات "قطعًا للأرزاق" لا تنظيمًا للمرور.

 

 

سائقون آخرون أكدوا أنهم غارقون في الديون وأقساط المركبات، وأن مصادرتها تعني ببساطة السجن أو التشرد لهم ولأسرهم. وتداول النشطاء مقاطع فيديو تُظهر حالة اليأس التي وصل إليها السائقون، حيث وقف بعضهم عاجزًا والدموع في عينيه أثناء سحب مصدر رزقه الوحيد أمام عينيه، بينما تساءل آخرون عن مصير "الغلابة" في بلد لم يعد فيه مكان للفقير.

 

 

بدائل وهمية وفشل حكومي

 

تتحدث الحكومة منذ سنوات عن "مبادرات إحلال التوك توك" واستبداله بسيارات "ميني فان" أو مركبات كهربائية، لكن الواقع يؤكد أن هذه المبادرات مجرد حبر على ورق أو مشاريع تعجيزية لا تناسب قدرات السائقين المالية. توقفت مبادرات الإحلال فعليًا أو تعثرت، وتركت السائقين في العراء يواجهون مصيرهم المجهول.

 

الخبير الاقتصادي، الدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة، صرح بأن الهدف هو "الانضباط"، لكنه تجاهل أن الانضباط لا يمكن أن يتحقق بتجويع الناس. فالبديل الآمن والرخيص غير متوفر، وشروط الترخيص والتقنين ما زالت معقدة ومكلفة، مما يجعل السائقين فريسة سهلة للابتزاز والغرامات اليومية.

 

قنبلة موقوتة

 

إن استمرار هذه السياسة الأمنية في التعامل مع أزمة اقتصادية اجتماعية ينذر بكارثة. فتجاهل الأبعاد الإنسانية لقرارات الحظر، وترك آلاف الشباب والرجال بلا مصدر دخل، هو بمثابة صناعة قنبلة موقوتة من الفقر والجريمة. الحكومة التي تتباهى بالمظهر الحضاري للعاصمة، تتناسى أن المظهر الحقيقي للدولة يُقاس بكرامة مواطنيها وقدرتهم على كسب عيشهم، وليس فقط بنظافة الشوارع من مركبات الفقراء.

 

في النهاية، يبقى السؤال الذي يطرحه كل سائق توك توك اليوم: هل الحكومة تحارب العشوائية، أم تحارب الفقراء؟ الإجابة واضحة في عيون الأطفال الذين بات قوت يومهم مهددًا بقرار إداري لا يرحم.