شهدت مصر، عقب انتهاء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025، انفجاراً غير مسبوق في أزمة قضائية–انتخابية قد تكون الأخطر منذ يوليو 2013.
فبعد قرار الهيئة الوطنية للانتخابات بإلغاء نتائج التصويت في 19 دائرة فردية موزعة على 7 محافظات بدعوى "الخروقات الجسيمة"، تحول المشهد من مجرد طعون إجرائية إلى معركة مفتوحة بين الهيئات القضائية الكبرى، كاشفاً عن تصدعات عميقة في بنية إدارة الدولة واهتزاز الثقة في المؤسسات التي طالما اعتمد عليها النظام كركائز للاستقرار.
هذا الصدام لا يعكس فقط فشلاً إدارياً، بل يعري أزمة بنيوية في قدرة النظام على ضبط التنافس الداخلي وإدارة مشهد انتخابي يفتقر لأدنى مقومات الإشراف القضائي الكامل.
"حرب البيانات": تنصل متبادل وفضح للمستور
لم تتأخر ردود الفعل المؤسسية عن الظهور، بل جاءت سريعة وعنيفة، لترسم صورة قاتمة عن "وحدة الصف" المزعومة داخل الجهاز القضائي:
- نادي قضاة مصر: أطلق الشرارة الأولى ببيان وصف بـ"التوضيحي"، لكنه حمل في طياته تبرؤاً صريحاً من المسؤولية، مؤكداً أن القضاة وأعضاء النيابة العامة لم يشاركوا في الإشراف الميداني. هذه "القنبلة السياسية" ألقت بكرة اللهب في ملعب الهيئات الأخرى، محملة إياها وزر الفشل التنظيمي.
- نادي مستشاري النيابة الإدارية: رد ببيان دفاعي حاد، متهماً الهيئة الوطنية للانتخابات "بالفشل في إدارة المشهد" وتعريض أعضائها لظروف "غير إنسانية". هذا التصعيد، الذي وصل لدرجة وصف بيان نادي القضاة بـ"النرجسي" من قبل "النادي البحري"، كشف عن احتقان مكتوم انفجر علنياً.
- هيئة قضايا الدولة: حاولت اللعب في المنطقة الرمادية عبر رسائل داخلية لتهدئة أعضائها الذين طالتهم اتهامات "التلاعب"، لكنها لم تنجح في احتواء الغضب المتصاعد الذي أخرج الخلاف من الغرف المغلقة إلى الفضاء العام.
هذا التراشق العلني، الذي وصفه المستشار أشرف مصطفى بأنه "اهتزاز واضح لمكانة القضاء"، لم يعد مجرد خلاف مهني، بل تحول إلى مؤشر خطير على تآكل هيبة المؤسسات السيادية أمام الرأي العام.
غياب الإشراف القضائي: جذور "الفوضى المنظمة"
يرى مراقبون وقانونيون أن ما حدث ليس مجرد خطأ عابر، بل نتيجة حتمية لغياب الإشراف القضائي الكامل لأول مرة منذ عقود.
- اختبار الفشل: اعتبر قانونيون أن هذه الانتخابات كانت "اختباراً فاضحاً" لقدرة مؤسسات الدولة على إدارة عملية تنافسية ولو صورية في غياب القاضي لكل صندوق. النتيجة كانت، وفق المحامي مصطفى علوان، "فوضى تنظيمية شاملة وتضارب في التعليمات".
- تغول المال السياسي: في ظل غياب الرقابة القضائية الصارمة ولجان متابعة الإنفاق، تحول شراء الأصوات إلى ظاهرة "غير مسبوقة"، حيث أكد حقوقيون أن المال السياسي كان "اللاعب الأكبر"، مع غياب شبه تام لتحرير المحاضر الرسمية للمخالفات، مما حول العملية الانتخابية إلى سوق مفتوح.
"كبش فداء" وتدخل رئاسي: محاولة احتواء الانهيار
في محاولة لتدارك الموقف، لجأت الهيئة الوطنية للانتخابات إلى استراتيجية "الهروب للأمام":
- القرار السياسي: أعلنت الهيئة إلغاء نتائج الدوائر الـ 19، وعزت القرار صراحة إلى "توجيهات عبد الفتاح السيسي"، في اعتراف ضمني بأن القرار الفني والقانوني بات مرتهناً للإرادة السياسية المباشرة.
- معاقبة الصغار: هددت الهيئة باستبعاد كل من يثبت تقصيره من المشرفين في المرحلة الثانية، في خطوة بدت وكأنها تحمل الموظفين الصغار فاتورة فشل منظومة كاملة.
- إجراءات ترقيعية: تزامنت الأزمة مع قرارات متأخرة بتمكين الوكلاء من الحصر العددي وحضور الصحافة، وهي خطوات بدت وكأنها محاولة لامتصاص الغضب بعد فوات الأوان، مما يعكس حالة من الارتجال والارتباك.
القوائم المغلقة: "الناجي الوحيد" وسط الركام
المفارقة الصارخة في هذا المشهد العبثي تكمن في التعامل المزدوج مع النتائج. فبينما أُلغيت نتائج ثلث الدوائر الفردية تقريباً بسبب "الفساد والخروقات"، تم اعتماد نتائج "القائمة الوطنية من أجل مصر" (التحالف الموالي للنظام) دون أي جدل، رغم أنها جرت في نفس المناخ وفي نفس اللجان.
هذا التناقض الصارخ يرسخ القناعة بأن النظام صمم العملية الانتخابية بهدف واحد: إنتاج برلمان "موالٍ" عبر القوائم المغلقة المحسومة سلفاً، بينما تُركت المقاعد الفردية كساحة لتصفية الحسابات وإدارة التوازنات المحلية، حتى لو كان الثمن هو فضح هشاشة المؤسسات وضرب مصداقية القضاء في مقتل. الأزمة الحالية، إذن، ليست مجرد "خطأ إجرائي"، بل هي عرض لمرض عضال ينخر في جسد نظام بات عاجزاً حتى عن إدارة مسرحيته الخاصة.

