في مشهد عبثي يتكرر مع كل أزمة، شنت أجهزة المحليات التابعة لحكومة الانقلاب حملات مسعورة لمصادرة مركبات "التوك توك" في القاهرة والمحافظات، تحت شعارات "المظهر الحضاري" و"ضبط الشارع".
تأتي هذه الحملات الشعواء بعد سنوات طويلة من ترك الحبل على الغارب لـ "مافيا الاستيراد" لتغرق السوق بملايين المركبات، محققة أرباحاً فلكية، ليجد المواطن البسيط نفسه اليوم متهماً ومطارداً، بينما ينعم كبار المستوردين بملياراتهم في مأمن من أي محاسبة. إنها سياسة "الذبح البطيء" لطبقة معدمة وجدت في هذه المركبة ملاذاً أخيراً من بطالة طاحنة، لتقابلها السلطة بالبلدوزر بدلاً من التقنين.
قلت لكم 100 مرة
— abonadim😛مرشدعام العلمانيين😛 (@abonadim1st) November 22, 2025
الدولة لو عايزة تلم الشارع وترجع الانضباط
هتقدر تعمل كده في 24 ساعة
pic.twitter.com/9jstAvaThp
مافيا الاستيراد: المليارات لهم والمصادرة لكم
لم يكن انتشار "التوك توك" في شوارع مصر حدثاً سرياً، بل تم تحت سمع وبصر الدولة التي فتحت أبوابها على مصراعيها لعدد محدود من كبار رجال الأعمال (وكلاء علامات تجارية معروفة مثل "غبور" وغيره) لاحتكار استيراد المكونات وتجميعها محلياً.
أرقام فلكية: تشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 3 ملايين توك توك في مصر، وتقدر القيمة السوقية لهذه المركبات بعشرات المليارات من الجنيهات، ذهب الجزء الأكبر من أرباحها لجيوب "حيتان الاستيراد" الذين استغلوا غياب النقل العام لبيع الوهم للشباب العاطل.
تواطؤ حكومي: صمتت الحكومة لسنوات طويلة عن تنظيم هذا السوق لأنها كانت تستفيد من الرسوم الجمركية والضرائب المفروضة على المستوردين، والآن بعد أن تشبع السوق وامتلأت خزائن "الكبار"، قررت فجأة أن التوك توك "غير حضاري" ويجب فرمه، في تناقض فج يكشف انحياز النظام لرأس المال على حساب قوت الغلابة.
إعدام وسيلة الرزق بدلاً من تقنينها
بدلاً من اتباع النهج العلمي الذي تبنته دول عديدة (مثل الهند ودول شرق آسيا) عبر ترخيص هذه المركبات ودمجها في الاقتصاد الرسمي، اختار نظام الانقلاب الحل الأمني العنيف: "المصادرة والفرم".
إهدار مورد مالي: كان بإمكان الدولة تقنين أوضاع هذه المركبات وتحديد مسارات آمنة لها (داخل القرى والمناطق العشوائية)، مما كان سيدر دخلاً سنوياً يقدر بنحو 3 مليارات جنيه لخزينة الدولة، ويضمن رقابة أمنية على السائقين.
العقاب الجماعي: بدلاً من ذلك، تشن المحليات حملات يومية (خاصة في القاهرة والجيزة) لمصادرة المركبات وفرض غرامات تعجيزية تفوق ثمن المركبة نفسها، مما يدفع السائقين للاستدانة أو السجن، في عملية نهب ممنهج لمدخرات البسطاء.
3 ملايين توك توك.. قنبلة اجتماعية موقوتة
الأرقام لا تكذب، لكن الحكومة تختار تجاهلها. يعول قطاع "التوك توك" بشكل مباشر وغير مباشر أكثر من 12 مليون مصري (بمتوسط 4 أفراد لكل أسرة تعتمد على دخل سائق واحد).
البديل المستحيل: تطرح الحكومة مبادرات استبدال "التوك توك" بسيارات "ميني فان" بأسعار وشروط بنكية مجحفة، مما يحول السائق من مالك لوسيلة إنتاج صغيرة إلى "عبد" للديون وأقساط البنوك لسنوات طويلة، لصالح شركات تجميع السيارات الجديدة التي يمتلكها نفس "حيتان" السوق.
تشريد بلا رحمة: قرار منع السير في الشوارع الرئيسية ومصادرة المركبات يعني قطع أرزاق ملايين الأسر في ظل غياب تام لأي شبكة حماية اجتماعية، مما ينذر بانفجار اجتماعي وشيك وارتفاع معدلات الجريمة كبديل لفرص العمل التي تدمرها الحكومة بيدها.
دولة الجباية لا تعرف الرحمة
إن أزمة "التوك توك" ليست مجرد مشكلة مرورية، بل هي تجسيد صارخ لعقلية نظام الانقلاب الذي يجيد "الجباية" ويفشل في "الإدارة". فبعد أن سمح بظهور المشكلة وتربح منها أزلامه، عاد ليحاسب ضحاياه من الفقراء بأقسى العقوبات. إن مصادرة "أكل عيش" الغلابة دون توفير بديل حقيقي وعادل هي جريمة مكتملة الأركان، تؤكد أن هذه السلطة لا ترى في المواطن الفقير سوى "عبء" يجب التخلص منه، أو "فريسة" يمكن استنزاف آخر قطرة من دمها.

