في مشهد يكشف عن حالة "انفصال تام" عن الواقع، خرج قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي ليعلن أن تحول مصر من دولة نامية إلى متقدمة قد يستغرق 100 عام ، في تراجع صادم عن وعوده السابقة بأن ما يُبنى في 100 عام سيتم إنجازه في 5 أو 6 سنوات.
هذا التحول من الوعود الفضفاضة إلى "التسويف التاريخي" يكشف أن الرجل أدرك أخيرًا أن "المشروعات الخرسانية" لا تصنع دولة متقدمة، وأن الشعب الذي أفقره وقمعه لن يصدق مزيدًا من الأكاذيب. لكن بدلاً من الاعتراف بالفشل، لجأ إلى حيلة قديمة: طلب الصبر لقرن كامل، أي أن أجيالاً ستموت دون أن ترى مصر "المتقدمة" التي يتحدث عنها.
من "معجزة 5 سنوات" إلى "كابوس 100 عام"
ليس هذا هو الخطاب الأول الذي يتناقض فيه السيسي مع نفسه بشكل فاضح. فقبل سنوات، كان يفتخر أمام الكاميرات بأن مصر تنجز في 5 سنوات ما كان يستغرق 100 عام.
كان يروج لمشروعاته الضخمة على أنها "طفرة تنموية" لم يشهدها التاريخ، وأن "الجمهورية الجديدة" ستحول مصر إلى سنغافورة الشرق الأوسط. لكن اليوم، وبعد أن انكشفت حقيقة الدين الخارجي الذي تجاوز 162 مليار دولار، والتضخم الجامح، وانهيار الجنيه، وارتفاع البطالة، وجد السيسي نفسه مضطرًا لتغيير السردية: من "عصر الإنجازات الخارقة" إلى "عصر الصبر الطويل".
هذا التحول يعكس عجزًا واضحًا عن الاعتراف بالفشل، واستمرارًا في "بيع الوهم"، لكن هذه المرة بطريقة أكثر مكرًا؛ فبدلاً من تقديم وعود قريبة يمكن محاسبته عليها، قدم وعدًا مستحيلًا يمتد لقرن كامل، أي أنه أعلن ضمنيًا أن جيل الحاضر "ضحية تجارب"، وأن الأجيال القادمة هي من ستحصد - ربما - ثمار ما يزرعه اليوم من ديون وفساد.
مقترحات بلا واقعية.. و"فيتو" بلا مصداقية
في نفس اللقاء الذي تحدث فيه عن المئة عام، رد السيسي على مقترح طالبة بتدريس "التربية العسكرية" في المدارس منذ المرحلة الابتدائية. رفض السيسي الفكرة بحجة أن مصر بها أكثر من 60 ألف مدرسة، وأن تنفيذ المقترح يتطلب تعيين 60 ألف ضابط، وهو أمر غير ممكن. هذا الرفض المنطقي يثير سؤالاً جوهريًا: إذا كان النظام عاجزًا عن توفير ضابط واحد لكل مدرسة، فكيف سينفذ "خطة المئة عام" لتحويل مصر لدولة متقدمة؟
الأخطر من ذلك، أن السيسي علق على "الانتخابات البرلمانية" المزورة التي شهدتها البلاد، قائلاً إنه استخدم "فيتو" (حق الاعتراض) على بعض الممارسات التي لم يرضَ عنها. هذا التصريح هو قمة النفاق؛ فالانتخابات التي شهدت شراء الأصوات بالمئات، واعتقال المرشحين المستقلين، وهيمنة "مستقبل وطن" على كل شيء، لم تكن سوى "مسرحية" أخرجها النظام نفسه. فكيف يدعي السيسي أنه اعترض على ممارسات هو من رعاها وحماها؟ هل يريد إقناعنا بأنه "ديمقراطي" يحترم الإرادة الشعبية، بينما هو من جاء بانقلاب عسكري وحول البلاد إلى ثكنة كبيرة؟
"مصر على حافة الهاوية".. خطاب التخويف الأبدي
تكرر السيسي في حديثه ادعاءه المعتاد بأن "مصر كانت على حافة الهاوية عام 2011"، وأنه منذ توليه السلطة عام 2014 يعمل على "تغيير الوضع للأفضل". هذا الخطاب الذي يستخدمه منذ 11 عامًا لم يعد يقنع أحدًا؛ فالمصريون يعيشون اليوم في "هاوية حقيقية" من الفقر والديون والقمع. ال 11 عامًا التي حكم فيها السيسي لم تشهد تحسنًا حقيقيًا في حياة المواطن العادي، بل شهدت تراجعًا مخيفًا على كل الأصعدة.
إذا كانت مصر على حافة الهاوية عام 2011، فهي اليوم في قاع الهاوية؛ الجنيه انهار من 7 جنيهات للدولار إلى أكثر من 50 جنيهًا، الدين الخارجي تضاعف عشرات المرات، البطالة ترتفع رغم الأرقام المجملة، والمواطن يبيع صوته الانتخابي بـ 300 جنيه لأنه لا يجد قوت يومه. فبأي منطق يدعي السيسي أنه "أنقذ" البلاد؟
نظام يبيع المستقبل ويطلب الصبر
حديث السيسي عن "100 عام" ليس خطة تنموية، بل هو إعلان صريح بأن النظام فشل ولا ينوي تحمل مسؤولية فشله. إنه يطلب من الشعب أن يصبر قرنًا كاملًا بينما هو يواصل بيع الأصول، ورهن السيادة، وتكديس الديون على الأجيال القادمة. إن من يفشل في إدارة بلد لمدة 11 عامًا، لا يمكن أن يُعطى 100 عام لإفساد المزيد. مصر لا تحتاج قرنًا من الحكم العسكري، بل تحتاج لحظة واحدة من الحرية الحقيقية لتنهض من تحت ركام الانقلاب.

