منذ أن كشفت الجارديان تفاصيل ما وصفته واشنطن بـ "المنطقة الخضراء" الآمنة داخل الجزء الخاضع لسيطرة إسرائيل في قطاع غزة، اتسع نطاق النقاش ليتجاوز جدلية إمكانية تنفيذ الخطة، ليصل إلى سؤال أكبر: هل يمكن فعليًا تفتيت غزة إلى مناطق منفصلة تُدار دوليًا وتُعزل عن مناطق نفوذ المقاومة؟

 

فالطرح، الذي يبدو سياسيًا في ظاهره، يخفي خلفه رؤية أمنية واضحة تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل من خلالها لفرض واقع جديد لما بعد الحرب. إلا أن هذه المقاربة، كما يوضح متخصصون، تصطدم بالبنية الاجتماعية المتماسكة في غزة، وبطبيعة التنظيم المحلي الذي يرفض أي محاولة لإعادة هندسة الواقع من أعلى.

 

هندسة سياسية فوقية

 

الخبير في الشؤون الأمنية والعسكرية رامي أبو زبيدة يذهب إلى أن الحديث عن “مناطق حمراء وخضراء” لا يتجاوز حدود “محاولة هندسة سياسية فوقية لا تمتلك شروط النجاح”، وفقًا لـ "المركز الفلسطيني للإعلام".

 

ويشرح أبو زبيدة أن الفكرة الأميركية تقوم على تصور يفصل بين المناطق التي يُعتقد أن نفوذ حماس فيها أقوى، وبين مناطق أخرى يُراد تحويلها إلى “مجتمعات آمنة” للنازحين تحت إشراف دولي ورعاية إسرائيلية.

 

لكنه يرى أن الخطة تفقد صلاحيتها منذ لحظة التأسيس، لأن غزة – بامتدادها العائلي والعمراني الكثيف – ليست أرضًا قابلة للتقسيم، ولا يمكن تحويل “خط أخضر” أو “خط أصفر” إلى واقع مستقر في منطقة يصعب إخضاعها للسيطرة الكاملة، وهي سيطرة لم تنجح إسرائيل في تحقيقها لا قبل الانسحاب ولا خلال عامين من الحرب.

 

ويضيف أن أي تقسيم جغرافي لا يستند إلى قبول المجتمع المحلي سيكون مآله الفشل، مستعيدًا في ذلك تجارب سابقة حاولت فيها سلطات الاحتلال إعادة هندسة القطاع: من خطة شارون في السبعينيات إلى مخططات “الأصابع الأمنية”، وصولًا إلى خطة الجنرالات خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزة.

 

ويقول أبو زبيدة: “كل هذه المشاريع انهارت عندما اصطدمت بالناس وبإصرارهم على إعادة تركيب الواقع وفق مصالحهم”. وهو ما يعيد إنتاج الاشكال ذاته اليوم، لأن “المناطق الآمنة” التي يُفترض أن تُدار بقوة دولية أو شرطة محلية أو ميليشيات مرتبطة بالاحتلال، ستكون بلا جذور اجتماعية، وبالتالي بلا قدرة على إنتاج استقرار حقيقي.

 

ويذكّر الخبير الأمني هنا بأن واشنطن جرّبت النموذج ذاته في بغداد وكابل: “ولا يمكن صناعة استقرار من خلال كيانات مصطنعة لا سند شعبيًا لها”.

 

أما على المستوى الإقليمي، فإن الخطة تواجه اعتراضات مؤثرة من مصر وقطر وتركيا، وهي أطراف ترى أن التقسيم سيفتح الباب أمام انفجار جديد، لا أمام تهدئة.

 

مجمعات سكنية بديلة

 

وفي سياق متصل، لفتت تقارير صحفية –استنادًا إلى مصدرين دبلوماسيين أميركيين مطلعين على ما يجري داخل مركز التنسيق، إضافة إلى مصدر ثالث يعمل فيه– إلى أن “تطوير القطاع، أو بشكل أدق بناء مجمعات سكنية بديلة مؤقتة شرق الخط الأصفر تحت سيطرة جيش الاحتلال، يتصدر سلم الأولويات الأميركية”.

 

ويقول أحد هؤلاء الدبلوماسيين إن واشنطن تركّز على هدفين: فتح المزيد من المعابر لإدخال المساعدات، وبناء المجمعات المؤقتة، في خطوة قد تتسق مع المصلحة الإسرائيلية لأنها ستُقسّم القطاع فعليًا إلى شطرين.

 

وما يزال غير واضح – كما تشير المصادر نفسها-ما إذا كان هذا التقسيم يستهدف تنفيذ أجندة الاحتلال تحت ذرائع أمنية مثل “نزع السلاح” وبقاء قواته في أحد الشطرين، أم أنه يتقاطع مع مشاريع أوسع تتعلق بإحياء الاستيطان.

 

وتضيف مصادر في مركز التنسيق أن التوجه الأميركي الحالي يقوم على مصادرة الأراضي من أصحابها وتعويضهم، وأن العمل التخطيطي لإزالة الأنقاض استعدادًا لبناء المجمعات الجديدة يتقدم بوتيرة سريعة، فيما لا تُظهر الدول المشاركة اعتراضًا كبيرًا على الخطة.

 

تعقيدات المشهد السياسي

 

وتزداد تعقيدات المشهد مع إصرار الخطة على فرضيتين يعتبرهما أبو زبيدة غير واقعيّتين: الأولى أن المقاومة ستقبل بالتعايش مع واقع جديد يُقسّم القطاع إلى مربعات نفوذ، والثانية أن المدنيين سينتقلون طوعًا إلى مناطق خاضعة لإشراف دولي–إسرائيلي، وهو ما يناقض طبيعة الغزيين وتجربتهم الطويلة مع الحصار والتهجير.

 

تقرير الجارديان الذي أثار الجدل قدّم وصفًا أوضح لما تسعى إليه واشنطن. فالولايات المتحدة –وفق ما ورد– تعمل على مخططات لـ “منطقة خضراء” يجري فيها إبعاد المدنيين عن مناطق نفوذ حماس، وإنشاء مساكن ومدارس ومستشفيات مؤقتة، وتقديم نموذج أولي لإعادة الإعمار، إضافة إلى تنظيم وجود عشرات الآلاف من النازحين في رفح.

 

غير أن التقرير نفسه يشير إلى سلسلة من العقبات التي تُقوّض إمكانية تطبيق المشروع: اعتراض مصري حاد خشية دفع الفلسطينيين نحو سيناء، وانعدام استعداد المانحين لتمويل مشاريع تقع تحت الهيمنة الإسرائيلية، وصعوبة التمييز بين المدنيين وعناصر المقاومة، إلى جانب استمرار وجود مقاتلين في الأنفاق تحت رفح.

 

كما يتناول التقرير الخلافات التي تعطل تشكيل “قوة دولية” لإدارة الأمن، والتردد الأميركي إزاء محاولات الاعتماد على ميليشيات محلية ترعاها إسرائيل.

 

ويلفت إلى أن وقف إطلاق النار الذي رُعِي في عهد ترامب كان قد أنتج واقعًا شبه مقسّم بنصف غربي يخضع لحماس وآخر شرقي تحت سيطرة إسرائيل، وهو واقع لا يمكن البناء عليه دون صدام مع الحقائق على الأرض.

 

ويرى أبو زبيدة، أن الخطة الأميركية ليست مشروع حل، وإنما “مناورة سياسية” لشراء الوقت وتوفير مخرج لإسرائيل بعد عجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة. فالتجاهل المتكرر لواقع المقاومة، ولقوة الحاضنة الشعبية في غزة، يجعل أي تصور من هذا النوع هشًا وغير قادر على الصمود أمام أول اختبار ميداني.

 

ومن هنا تبدو الخلاصة واضحة، من وجهة نظره، “غزة، في اجتماعها وسياقها، لا تقبل التقسيم لا جغرافيًا ولا اجتماعيًا، وأي مقاربة تتجاهل هذه الحقيقة محكوم عليها بالتلاشي كما تلاشت الهندسات الأمنية” السابقة من بغداد إلى كابل، وصولًا إلى قطاع غزة”.