في مشهد يكشف حجم الانهيار في نزاهة ما تسمى بـ"العملية الانتخابية" تحت حكم قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، حددت المحكمة الإدارية العليا جلسة الأحد 7 ديسمبر لنظر الطعون المقدمة على قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات بإعلان نتيجة المقاعد الفردية في محافظات المرحلة الثانية. حتى لحظة نشر الخبر، قُدِّم أكثر من 300 طعنًا قضائيًا على النتائج، رقم مرشح للزيادة حتى العاشرة من مساء اليوم، بما يحول صناديق الاقتراع إلى قفص اتهام مفتوح في مواجهة سلطة الانقلاب وهيئتها "المستقلة" شكليًا.

 

وبحسب الجدول الزمني المعلن، تملك المحكمة عشرة أيام فقط، من 5 حتى 14 ديسمبر، للفصل في هذا السيل من الطعون، في سباق مع الوقت بين قضاة يحاول بعضهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هيبة القانون، وسلطة أمر واقع تسعى إلى تمرير برلمان مطيع بأي ثمن، ولو على جثة الدستور والحد الأدنى من المعايير الديمقراطية.

 

سيل من الطعون في عشرة أيام: برلمان مطعون في شرعيته قبل أن يولد

 

تخصيص جلسة 7 ديسمبر لنظر الطعون، مع مهلة عشرة أيام فقط للفصل في أكثر من 300 دعوى، يكشف عن حجم التصدع في شرعية الانتخابات قبل اكتمال مراحلها. هذا الرقم لا يعبر عن "خلافات انتخابية طبيعية"، بل عن موجة اعتراضات واسعة من مرشحين وشهود ومندوبين، توثق عبر محاضر رسمية وفيديوهات، أن ما جرى أقرب إلى عملية "توظيف للصناديق" لصالح حزب السلطة وأذرع الأجهزة، وليس تعبيرًا حرًا عن إرادة الناخبين.

 

الطبيعي في أي نظام يحترم نفسه أن يدفع هذا الحجم من الطعون السلطة إلى مراجعة شاملة لقواعد اللعبة. لكن في ظل حكم الانقلاب، تتحول الطعون إلى مجرد "إجراء شكلي" يقطعه القضاء، بينما تواصل الهيئة الوطنية للانتخابات السير في طريق إعلان النتائج، وكأن شكاوى التزوير وشراء الأصوات واحتجاز المرشحين مجرد "تفاصيل" يجب تجاوزها من أجل استكمال "الاستحقاق" المرسوم سلفًا.

 

المال السياسي… جريمة منظمة لا "مخالفات فردية"

 

أحد أبرز الطعون، ذلك الذي أقامه طلعت خليل، المنسق العام للحركة المدنية ومرشح حزب المحافظين في السويس، مطالبًا بإلغاء قرار إعلان فوز المرشح أحمد غريب حسين، وإجراء جولة إعادة بين مرشحين آخرين. خليل صرّح بأن طعنه يستند إلى مخالفات جسيمة، على رأسها عدم تسليم مندوبيه محاضر الفرز الفرعية، بالمخالفة الصريحة لتعليمات الهيئة الوطنية، وهو إجراء يفتح الباب على مصراعيه للتلاعب في الأرقام وتفصيل النتائج وفق هوى السلطة.

 

الأخطر أن خليل لم يتحدث عن "شبهات" بل عن "تفشي ظاهرة المال السياسي بشكل فج لشراء الأصوات"، واصفًا ما جرى بأنه "جريمة منظمة مكتملة الأركان" تهدد مستقبل السياسة في مصر. هذا التوصيف ينسف الرواية الرسمية عن "مخالفات فردية" هنا أو هناك، ويكرس حقيقة أن المال السياسي تحول إلى أداة بنيوية لإعادة إنتاج برلمان موالٍ، تحت سمع وبصر أجهزة الدولة، بل وبغطاء من هيئة يفترض أنها "حارسة لنزاهة الانتخابات".

 

خليل أشار أيضًا إلى أن مخالفة عدم تسليم المحاضر كانت سببًا رئيسيًا لقبول طعون في دوائر بالمرحلة الأولى وإلغاء نتائجها، ما يفضح ازدواجية المعايير: ما يُعتَبر سببًا للإلغاء في دائرة، يُتجاهَل في دوائر أخرى حين تقتضي مصلحة السلطة تثبيت نتائج بعينها.

 

احتجاز مرشح لمنعه من الرقابة: الأمن طرف مباشر في المعركة

 

تجاوز الأمر حدود التلاعب الإداري والمالي إلى انتهاك مباشر لحقوق المرشحين. طلعت خليل نفسه تحدث عن احتجازه دون سند قانوني لمدة ثلاث ساعات في يوم الاقتراع، وتحويله للنيابة بتهمة لم يرتكبها، ما حرمه من متابعة سير التصويت وحضور لجان الفرز في الساعات الحاسمة.

 

هذا السلوك الأمني لا يمكن فصله عن سياق أوسع، تُستخدم فيه الشرطة وأجهزة التحقيق كأدوات ضغط وإقصاء سياسي، لا كضامنة لحياد الدولة. حرمان مرشح معارض من التواجد في اللجان خلال الفرز ليس "واقعة فردية"، بل رسالة واضحة لكل من يفكر في منافسة جادة: صناديق الاقتراع تحت الحراسة المشددة لممثلي السلطة وحدهم.

 

مثل هذه الوقائع تشكّل، قانونيًا، سببًا جديًا لبطلان الإجراءات والنتائج، لأنها تصادر حق المرشح في الرقابة وتخل بمبدأ تكافؤ الفرص. لكن في مناخ الانقلاب، يتحول البطلان إلى "وجهة نظر"، والشكوى إلى "مستند" يُحفظ في الأدراج ما لم تتقاطع مصالح الأجهزة مع إلزام الهيئة بإعادة الانتخابات في دائرة ما.

 

تسويد جماعي ومنع ناخبين في بلبيس: هندسة النتائج على الأرض

 

الطعون لا تقتصر على السويس. في دائرة بلبيس بمحافظة الشرقية، أقامت المرشحة إنجي عيسى البطريق طعنًا استند إلى مخالفات جسيمة أثّرت في النتيجة، أبرزها رصد وقائع "تسويد جماعي" لبطاقات الاقتراع لصالح أحد المرشحين، وتقديم رشاوى انتخابية وتوجيه الناخبين أمام اللجان.

 

الطعن وثّق بالفيديو منع مناديب المرشحة من حضور الفرز، والتضييق على ناخبين ومنعهم من الوصول للجان في مناطق بعينها، عبر غلق اللجان لساعات طويلة. هذه ليست فقط مخالفات إجرائية، بل "هندسة ميدانية" متعمدة لخريطة التصويت، تحرم كتلًا تصويتية كاملة من حقها في الاختيار، وتضمن أن تبقى النتيجة في حدود الهامش المسموح به من السلطة.

 

في أي انتخابات حقيقية، يكفي ثبوت واقعة واحدة من تسويد جماعي أو إغلاق مقصود للجان لإلغاء النتائج فورًا. لكن تحت حكم الانقلاب، تتحول أدلة الفيديو وشهادات المندوبين إلى "أوراق ثانوية" أمام إرادة سياسية مصممة على تمرير برلمان على مقاس حزب السلطة وأحلافه.

 

 

هيئة الانتخابات… غطاء قانوني لبرلمان حزب السلطة

 

رغم كل ما سبق من شكاوى موثقة وطعون متلاحقة، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات، يوم الثلاثاء، فوز 40 مرشحًا على المقاعد الفردية في الجولة الأولى من المرحلة الثانية، مع خوض 202 مرشح لجولة الإعادة على 101 مقعد. حزب "مستقبل وطن" – الذراع السياسية الأبرز للسلطة – استحوذ على أغلب المقاعد، بينما جرى تسويق صعود 117 مرشحًا مستقلًا كدليل على "التعددية"، في محاولة تجميل مكشوفة لمشهد محكوم مسبقًا.

 

المفارقة أن الهيئة التي ترفض إنصاف المتظلمين هي نفسها التي تتباهى أمام الكاميرات بـ"شفافية غير مسبوقة" و"إدارة مستقلة بالكامل". الواقع، كما تكشفه الطعون، أن دورها الفعلي أقرب إلى توفير غطاء قانوني لعملية سياسية معوجة، لا إلى حماية إرادة الناخبين. فحين تتجاهل الهيئة أدلة على المال السياسي، وتسكت على احتجاز مرشحين، وتُصر على إعلان نتائج مطعون فيها من عشرات الدوائر؛ تصبح جزءًا أصيلًا من المشكلة، لا حكمًا محايدًا في ساحة النزاع.

 

قضاء محاصر بين نص القانون وواقع الانقلاب

 

تقع المحكمة الإدارية العليا اليوم تحت ضغط هائل: من ناحية، نصوص قانونية ودستورية ووقائع موثقة تدفع باتجاه إلغاء نتائج دوائر عديدة؛ ومن ناحية أخرى، واقع سياسي أُغلقت فيه كل المسارات تقريبًا أمام أي تعبير حقيقي عن معارضة، وتحولت المؤسسات إلى أدوات لتثبيت سلطة انقلاب لا تريد أن تسمع كلمة "بطلان" أو "إعادة فرز" إلا في حدود ما تسمح به حساباتها.

 

أكثر من 240 طعنًا في عشرة أيام ليست رقمًا قانونيًا فحسب، بل مؤشر سياسي على حجم أزمة شرعية تلاحق انتخابات مجلس النواب من لحظتها الأولى. الكرة الآن في ملعب قضاة الإدارية العليا: إما أن يرسخوا الانطباع بأن القضاء لم يعد سوى جزء من ماكينة إعادة تدوير النظام عبر برلمان جديد، وإما أن ينتزعوا، ولو في دوائر محدودة، اعترافًا قضائيًا بأن ما جرى لم يكن "عرسًا ديمقراطيًا"، بل عملية معيبة يهيمن عليها المال السياسي والقمع الأمني وقرارات هيئة فقدت حيادها.

 

في كل الأحوال، ستظل هذه الطعون، وما تحمله من شهادات وفيديوهات ووقائع، وثيقة إدانة لحكومة الانقلاب ومنظومتها الانتخابية، حتى لو جرى الالتفاف عليها بأحكام انتقائية أو تسويات سياسية في الكواليس