في خطوة تعكس حالة "السعار" المالي التي تسيطر على حكومة الانقلاب بحثاً عن أي سيولة لإنقاذ أسواقها المترنحة، أصدرت الهيئة العامة للرقابة المالية قراراً خطيراً يُلزم صناديق التأمين الحكومية بالمقامرة بأموال المشتركين في البورصة المصرية. القرار الذي يُجبر هذه الصناديق –التي تمثل شبكة أمان لملايين البسطاء– على ضخ ما بين 5% و20% من أموالها في الأسهم، ليس "تعظيماً للعوائد" كما يزعم النظام، بل هو محاولة يائسة لتوظيف مدخرات الفئات الأكثر هشاشة كـ"وقود" لإشعال شاشات البورصة وتجميل وجه الاقتصاد القبيح، حتى لو كان الثمن تبديد أموال الأيتام والطلاب وصغار الكسب، في مغامرة غير محسوبة العواقب.
جباية مقنعة.. الاستيلاء على مدخرات 29 مليون مواطن
تحت شعارات براقة مثل "الاحترافية" و"الحوكمة"، يسعى النظام لوضع يده على أصول صناديق التأمين الحكومية التي تبلغ استثماراتها 2.1 مليار جنيه. هذه الأموال ليست ملكاً للحكومة لتغامر بها، بل هي حقوق لـ 29 مليون مواطن، تشمل فئات لا تحتمل المخاطرة مثل طلاب المدارس والأزهر، وصغار الصيادين، وأرباب العهد. إجبار هذه الصناديق على الدخول في "محرقة الأسهم" عبر صناديق الاستثمار المفتوحة هو انتهاك صارخ لمبدأ "الأمان" الذي قامت عليه هذه الكيانات، وتحويلها من أوعية ادخارية آمنة إلى محافظ مضاربة تخدم حيتان السوق ومؤشرات البورصة الوهمية.
أكذوبة "تعظيم العوائد" في سوق مأزوم
حديث رئيس هيئة الرقابة المالية، محمد فريد، عن أن الهدف هو "تعظيم العوائد" يثير السخرية في ظل واقع البورصة المصرية التي تعاني من تقلبات عنيفة وارتباط وثيق بتدهور العملة المحلية. كيف يمكن لمدخرات "الغلابة" أن تدار باحترافية في سوق يتحكم فيه "الأموال الساخنة" والمضاربات؟ الحقيقة أن النظام يريد استخدام هذه المليارات كـ"دعامات" صناعية لمنع انهيار الأسهم، تماماً كما فعل سابقاً مع أموال التأمينات والمعاشات. إنها سياسة "التلبيس"؛ أخذ أموال الفئات الضعيفة لستر عورات الفشل الاقتصادي الكلي، حتى لو أدى ذلك لتبخر قيمتها الحقيقية مع أي هزة في السوق.
من "حماية المخاطر" إلى "صناعة المخاطر"
المفارقة الكبرى أن هذه الصناديق أُنشئت في الأصل لـ"حماية فئات محددة من مخاطر لا تقبلها شركات التأمين التجارية"، أي أنها الملاذ الأخير لهذه الفئات. قرار الحكومة يحول هذا "الملاذ" إلى "حقل ألغام". بدلاً من استثمار هذه الأموال في أوعية مضمونة كأذون الخزانة أو الودائع (التي كانت تشكل الجزء الأكبر من محفظتها)، يتم الدفع بها قسراً إلى أصول عالية المخاطر. فماذا سيحدث لتعويضات طلاب المدارس أو أصحاب مراكب الصيد إذا انهارت الأسهم التي استثمرتم فيها؟ هل ستعوضهم الحكومة من خزينتها الخاوية؟ أم سيقال لهم "هذه هي قواعد السوق"؟
سلسلة الاستحواذ.. من الخاص إلى الحكومي
هذا القرار ليس معزولاً، بل هو حلقة في سلسلة ممنهجة بدأت في فبراير الماضي بإلزام صناديق التأمين الخاصة وشركات التأمين بنفس النسب. النظام الآن يستكمل الطوق على كل مليم متاح في الأوعية المالية للدولة. بعد أن جففوا منابع السيولة، لم يتبق أمامهم سوى "حصالة" الصناديق الحكومية لكسرها. إن تحديد مهلة 6 أشهر لتوفيق الأوضاع هو بمثابة "فرمان عسكري" للتنفيذ الفوري، لا يترك مجالاً لدراسة الجدوى أو تقييم المخاطر الحقيقية لكل صندوق على حدة، ما يؤكد أن الهدف هو "التحصيل" لا "التطوير".
خاتمة: اللعب بالنار في جيوب الفقراء
إن حكومة السيسي التي فشلت في جذب استثمار أجنبي حقيقي ومستدام، تلجأ الآن إلى الحل الأسهل والأخطر: "تأميم" السيولة المحلية قسراً وتوجيهها لخدمة أهدافها السياسية والدعائية. المقامرة بأموال التأمين الحكومي هي جريمة اقتصادية واجتماعية مكتملة الأركان، تضع مستقبل ملايين الأسر على كف عفريت البورصة، وتثبت أن هذا النظام لا يتورع عن حرق الأخضر واليابس من أجل البقاء يوماً إضافياً في السلطة.

