اختيار قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي للغاز الإسرائيلي بدلًا من التوسّع في التعاقد مع قطر أو الجزائر ليس مسألة فنية فقط، بل قرار سياسي استراتيجي ربط أمن الطاقة في مصر بدولة احتلال، رغم وجود بدائل عربية جرى استخدامها فعليًا في السابق.

 

هذا ما يعتبره عدد من الخبراء والاقتصاديين والسياسيين خيانة لمصالح مصر وأمنها القومي من البداية للنهاية، لا مجرد “صفقة تجارية”.

 

خلفية صفقات الغاز: من قطر والجزائر إلى إسرائيل

 

بعد أزمة نقص الغاز في مصر بين 2013 و2015 لجأت الحكومة مؤقتًا إلى واردات الغاز المسال (LNG) من قطر والجزائر وغيرها، حيث قدّمت قطر 5 شحنات مجانية تقريبًا في 2013، بينما وفّرت شركة “سوناطراك” الجزائرية عدة شحنات لمصر ضمن عقود قصيرة الأجل.

هذه التجربة أثبتت أن باب الاستيراد من دول عربية كان مفتوحًا من الناحية العملية، وإن كان مكلفًا نسبيًا لأنه يعتمد على الغاز المسال المنقول بحرًا لا على خطوط أنابيب.

 

بدءًا من 2018 تغيّر المسار جذريًا؛ شركة “دولفينوس” المصرية وقّعت اتفاقًا بقيمة 15 مليار دولار لاستيراد الغاز من حقل “ليفياثان” و”تمار” في إسرائيل، ثم جرى توسيع الترتيب ليصبح أساسًا لتحويل مصر إلى “مركز إقليمي” يعاد فيه تسييل الغاز الإسرائيلي في محطتي إدكو ودمياط وإعادة تصديره إلى أوروبا.

 

وفي 2025 أُعلن عن اتفاق ضخم جديد بقيمة تقارب 35 مليار دولار حتى 2040، يضمن تدفق نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي إلى مصر على مدى 15 عامًا.

 

لماذا إسرائيل لا قطر والجزائر؟

 

تحليلات مراكز أبحاث الطاقة تشير إلى أن القاهرة اختارت الاندماج في “منظومة شرق المتوسط” التي تضم مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، ما جعل الغاز الإسرائيلي جزءًا محوريًا من رؤية السيسي لتحويل مصر إلى مركز إقليمي لإسالة الغاز وتصديره لأوروبا.

هذا المسار يخدم حسابات واشنطن وتل أبيب الجيوسياسية، لأنه يمنح إسرائيل منفذًا آمنًا لبيع غازها عبر البنية التحتية المصرية، بدل الاعتماد على خطوط أنابيب معقدة تمر بدول أخرى.

 

في المقابل، عقود الغاز المسال مع قطر والجزائر كانت قصيرة الأجل وبأسعار أعلى نسبيًا من الغاز المنقول عبر الأنابيب، لكنها بقيت خيارًا ممكنًا يمكن توسيعه لو أرادت السلطة أولوية الاستقلال عن إسرائيل.

وجود بدائل عربية لم يمنع السيسي من تفضيل ربط أمن الطاقة المصري بأنابيب الاحتلال لعقود، وهو ما يصفه منتقدون بأنه خيار سياسي متعمد لا يحكمه منطق اقتصادي بحت.

 

أصوات خبراء تتهم الصفقة بالخطر والخيانة

 

الخبير الاقتصادي المصري مصطفى عبد السلام يرى أن رهن الكهرباء والصناعة في مصر بتدفق الغاز من إسرائيل “تهديد مباشر للأمنين القومي والاقتصادي”، محذرًا من أن أي تعثر أو ابتزاز في الإمدادات يمكن أن يشل قطاعات حيوية في البلاد.

 

أستاذ العلوم السياسية مصطفى السيد وصف الاتفاق بأنه “هدية سياسية ومالية واستراتيجية للعدو”، معتبرًا أنه ينقل مصر من موقع الدولة المستقلة إلى موقع التابع اقتصاديًا لطرف يحتل أرضًا عربية ويحاصر غزة.

 

الأكاديمي محمد الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية، اعتبر أن شراء مصر “غازًا فلسطينيًا مسروقًا” من إسرائيل أثناء حرب إبادة على غزة هو تواطؤ أخلاقي وسياسي، لا يمكن تبريره بأي ذريعة اقتصادية.

 

الإعلامية سلمى الدالي انتقدت جعل مصر رهينة لإمدادات عدو “قطع الغاز أكثر من مرة في أوقات ذروة الاحتياج”، مؤكدة أن تحويل إسرائيل إلى مزوّد رئيسي للطاقة يعني قبول ابتزاز دائم.

 

كما حذّرت تحليلات نشرت في منصات مثل Middle East Eye وResponsible Statecraft من أن هذه الصفقات تقايض هامش استقلال القرار المصري مقابل وعود هشة بدور “مركز غاز” في شرق المتوسط.

 

ارتهان القرار المصري للغاز الإسرائيلي

 

دراسات صدرت عن معاهد بحثية دولية تُظهر أن ربط تشغيل محطات الكهرباء ومجمعات البتروكيماويات المصرية بالغاز الإسرائيلي حتى 2040 يجعل أي خلاف سياسي أو أمني مع تل أبيب سيفًا مسلطًا على رقبة الاقتصاد المصري. هذا ما برز عمليًا حين خفضت إسرائيل الإمدادات أو لوّحت بتجميد الاتفاق، ما اضطر القاهرة للبحث عن شحنات فورية بديلة بأسعار أعلى، وكشف مدى هشاشة “أمن الطاقة” الذي رُوّج له.

 

المفارقة أن ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ردّ على تهديدات نتنياهو بوصفه “واهمًا” إذا ظن أن لمصر طريقًا واحدًا للطاقة، مؤكدًا أن القاهرة تمتلك بدائل وسيناريوهات. منتقدو الصفقة يرون في هذا الكلام اعترافًا ضمنيًا بأن بدائل مثل الغاز الجزائري والقطري والإقليمي كانت وما زالت ممكنة، لكن السلطة فضّلت طريقًا يكرّس التبعية لإسرائيل لا الاستقلال عنها.

 

غياب التعاقد العربي.. خيار سياسي لا قدر مفروض

 

السجل العملي يثبت أن مصر استطاعت بالفعل استيراد شحنات من قطر والجزائر وروسيا وشركات دولية أخرى عندما أرادت، وأن هذه المصادر يمكن البناء عليها لو كان الهدف تقليل الارتهان لا تعميقه. لكن قرار السيسي بالانخراط في منظومة غاز شرق المتوسط مع إسرائيل، ثم توقيع عقود بمليارات الدولارات حتى 2040، حوّل إسرائيل إلى ركيزة في أمن الطاقة المصري بدل أن تبقى مجرد خيار ثانوي أو مؤقت.

 

من زاوية هؤلاء الخبراء الخمسة وغيرهم، تجاهل توسيع التعاقد مع قطر والجزائر لصالح ربط مصر استراتيجيًا بالغاز الإسرائيلي، في ظل حرب مفتوحة على غزة واحتلال مستمر لفلسطين، ليس خطأ تقنيًا بل مسارًا كاملاً من “التطبيع الاقتصادي” يرونه خيانة لمصالح الشعب المصري وللقضايا العربية في آن واحد.