أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تراجع معدل التضخم الشهري في إجمالي الجمهورية خلال نوفمبر 2025 بنسبة (-0.2%)، مستندًا إلى انخفاضات حادة في أسعار الخضراوات وعدد من مجموعات الغذاء، في الوقت الذي تتوسع فيه موجات الغلاء في السكن والطاقة والنقل والخدمات.
هذا الإعلان يأتي رغم أن استطلاعًا لرويترز شمل 14 محللًا توقع ارتفاع التضخم السنوي في المدن إلى 13.1% في نوفمبر، بعد أن قفز بالفعل إلى 12.5% في أكتوبر، بما يعكس استمرار الضغط التضخمي لا انكماشه. الفجوة بين خطاب "الانخفاض الشهري" الرسمي، والتوقعات والوقائع الميدانية، تكشف كيف تُستخدم الأرقام لتسويق صورة استقرار وهمي بينما تلتهم الأسعار دخول المصريين.
تضخم “منخفض” فوق أرضية ملتهبة
التركيز الرسمي على تراجع شهري محدود في مؤشر الأسعار بسبب هبوط مجموعة الخضراوات يتجاهل أن هذا المكوّن من أكثر البنود تقلبًا، وغالبًا ما يعكس صدمات عرض موسمية لا تحسنًا هيكليًا في كلفة المعيشة.
في المقابل، تشير البيانات الدولية إلى أن التضخم السنوي ظل في اتجاه صاعد بنهاية 2025، بعد أن سجل 12.5% في أكتوبر، ما يعني أن القوة الشرائية للمواطن تتآكل على أساس سنوي حتى لو تباطأ المؤشر شهريًا بفعل عنصر أو عنصرين. هكذا يتحول الحديث عن "انخفاض شهري" إلى أداة لإخفاء المسار العام للأسعار الذي لا يزال فوق مستويات استهداف البنك المركزي ويفوق بكثير نمو الأجور والدخول.
توقعات رويترز: التضخم إلى الأعلى لا الأسفل
استطلاع رويترز لآراء 14 محللًا توقع أن يرتفع التضخم السنوي في المدن إلى 13.1% في نوفمبر، بعد أن صعد بالفعل من 11.7% في سبتمبر إلى 12.5% في أكتوبر، مدفوعًا بزيادات في التبغ والكحوليات والنقل.
هذه التوقعات لم تأت من فراغ؛ فقد سبقتها قرارات حكومية برفع أسعار الوقود بين أكثر من 10% و12%، إلى جانب قانون يتيح زيادات في الإيجارات، وهي عوامل معروفة تاريخيًا بأنها تضغط صعودًا على التضخم لعدة أشهر متتالية. حين تتحدث السوق والمؤسسات البحثية عن مسار تصاعدي، بينما تفضّل حكومة الانقلاب إبراز رقم شهري سلبي محدود، يصبح واضحًا أن الهدف سياسي أكثر منه فني.
أسعار السكن والطاقة والنقل تنفجر
في قلب سلة التضخم تقف بنود السكن والطاقة والنقل كأكبر مكونات الإنفاق الأسري، وهي البند الذي شهدت التقارير الدولية نفسها اعترافًا بزيادة أعبائه في مصر خلال 2025.
رفع أسعار الوقود في أكتوبر، وما تبعه من ارتفاع في تكاليف النقل واللوجستيات، لا يمكن أن يختفي أثره في شهر واحد، بل يمتد على مدار ربع سنة على الأقل، وهو ما أشار إليه محللو البنوك العالمية الذين توقعوا استمرار مساهمة النقل والإسكان في دفع التضخم لأعلى. وعندما ترتفع الإيجارات بفعل تشريعات جديدة، وتتصاعد تكاليف الكهرباء والغاز، يصبح أي حديث عن "راحة تضخمية" للمواطن نوعًا من الإنكار المتعمد لمركز ثقل الإنفاق في ميزانية الأسرة.
تلاعب بالزاوية التي تُعرض منها الأرقام
تكتيك النظام يقوم على اختيار زاوية واحدة من الصورة: التغير الشهري العام، بدلًا من الاعتراف بأن التضخم السنوي لا يزال أعلى من مستويات ما قبل أزمة 2022–2023، وأن مصر ما زالت خارجة من موجة تاريخية بلغت 38% في سبتمبر 2023 قبل أن تتراجع نسبيًا.
فالمحللون الدوليون يتحدثون عن متوسط تضخم يدور حول 12–13% في 2025/2026، أي أكثر من ضعف المستويات الطبيعية، بينما تسوّق حكومة الانقلاب لفكرة أن "الأزمة انتهت" لمجرّد أن المعدل لم يعد فوق 30%. بهذا تتحول أرقام التضخم من أداة إنذار مبكر لصانع السياسة والمجتمع إلى أداة تجميل سياسي تبرّر استمرار رفع الدعم والضرائب غير المباشرة بحجة "السيطرة على الأسعار".
ضغوط مستمرة رغم التراجع عن الذروة
البنوك الاستثمارية والتقارير الدولية التي ترصد الاقتصاد المصري تتوقع تراجعًا تدريجيًا في المتوسط السنوي للتضخم حتى 2026، لكنها تربط ذلك بشرط استمرار التشديد النقدي وتباطؤ الطلب، لا بتحسّن حقيقي في هيكل الاقتصاد أو العدالة في توزيع الأعباء.
هذا يعني أن كلفة كبح التضخم تُدفع من جيوب المواطنين عبر ارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع فرص العمل، وغلاء القروض والإيجارات، أكثر مما تُدفع من خلال إصلاح منظومة الاحتكار وفتح المجال لمنافسة حقيقية وخفض هوامش أرباح الكيانات المسيطرة على الأسواق. وفي هذه الأجواء، يصبح الهبوط من تضخم قياسي إلى تضخم "مرتفع لكن أقل" أشبه بالانتقال من غرفة العناية المركزة إلى غرفة عادية، بينما يبقى المريض – وهو الاقتصاد الحقيقي – في حالة حرجة.
الحاجة لشفافية لا لصناعة الوهم
عندما تتجاهل حكومة الانقلاب توقعات مؤسسات دولية مثل رويترز والمحللين الذين يرون استمرار الضغوط السعرية، وتصر على بيع رواية "الانخفاض الشهري" دون تفصيل جدي لكيفية قياس الأسعار في الأسواق الشعبية وباقي المحافظات، فهي تعيد إنتاج نفس النمط: إدارة الأزمة إعلاميًا بدلًا من معالجتها هيكليًا.
المطلوب ليس التلاعب بزوايا الأرقام، بل فتح بيانات التضخم للتدقيق المستقل، وربطها بسياسات واضحة لضبط أسعار الطاقة والإيجارات والنقل، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية للأكثر تضررًا، بدل الاكتفاء بحملات دعائية عن مؤشرات لا يشعر بها المواطن في جيبه.
في النهاية، ما يحكم على صدقية بيانات التضخم ليس بيان الجهاز المركزي، بل سؤال بسيط يطرحه المصري يوميًا: هل باتت الحياة أقل كلفة فعلًا، أم أن الأرقام فقط هي التي تراجعت؟

