صفقات جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة لم تعد استثمارات عادية في سوق المال، بل تحوّلًا منظمًا في ملكية قطاعات كاملة لصالح ذراع اقتصادي عسكري يعمل دون شفافية أو رقابة مجتمعية حقيقية. رفع الجهاز حصته في شركة التعمير والاستشارات الهندسية من 1.368% إلى 12.891% بشراء نحو 2.7 مليون سهم بقيمة تتجاوز 236 مليون جنيه، يأتي كحلقة جديدة في سلسلة استحواذات تمتد من الصناعات الطبية إلى الدواجن والأراضي والسلع، بينما تُباع للناس تحت لافتة “التنمية المستدامة” و“تعظيم دور الدولة”، في تحدٍّ مباشر لانتقادات صندوق النقد التي تطالب بتقليص هيمنة الجيش على الاقتصاد.

 

من “مشروع قومي” إلى لاعب ثقيل في البورصة

 

جهاز مستقبل مصر الذي قُدِّم للرأي العام كمشروع زراعي قومي تابع للقوات المسلحة، يتحول تدريجيًا إلى واحد من أكبر اللاعبين في البورصة المصرية. استحواذه الأخير على قرابة 13% من أسهم “التعمير والاستشارات الهندسية” يضعه في مركز ثانٍ مباشر بعد مجموعة رواء القابضة، ويمنحه نفوذًا مؤثرًا في قرارات شركة تعمل في واحد من أكثر القطاعات ربحية وحساسية: البناء والتطوير العقاري. هذا التوسع لا يعني مجرد “استثمار”، بل نزعًا صامتًا لملكية القطاع الخاص المدني، واستبدالها بكيان عسكري لا يخضع لقواعد المنافسة أو الضرائب أو الإفصاح بنفس الدرجة التي تُفرض على بقية المشاركين في السوق.

 

سلسلة استحواذات تكشف اتجاهًا لا صدفة

 

رفع الحصة في “التعمير” لم يأت من فراغ؛ فالجهاز سبق أن استحوذ في سبتمبر على 8.775% من أسهم الشركة الدولية للصناعات الطبية (إيكمي) بعد شراء أكثر من 5 ملايين سهم، إلى جانب شراء نحو 111 مليون سهم في شركة المنصورة للدواجن بقيمة تتخطى 212 مليون جنيه، ما منحه نفوذًا واسعًا في قطاعي الغذاء والدواء معًا. في يناير الماضي، اشترى 52.6% من ملكية “البورصة السلعية مصر”، وبذلك أمسك بإدارة وتشغيل سوق من المفترض أن تكون منصة حرة لتسعير السلع، قبل أن يستحوذ في أغسطس على نحو 89.66% من شركة العربية لاستصلاح الأراضي، وهي شركة تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية. الصورة العامة تقول إن جهازًا واحدًا، تابعًا للجيش، ينسج شبكة سيطرة تمتد من الأرض إلى الغذاء إلى السلع إلى الخدمات الهندسية.

 

تعارض صارخ مع تعهدات “تقليص دور الجيش”

 

في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة استعدادها لطرح شركات تابعة للقوات المسلحة مثل “وطنية” و“صافي” في البورصة استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي، تتحرك أذرع أخرى لزيادة توسع الجيش في ملكية الشركات، وبأرقام وصفقات متتالية. الرسالة العملية للمستثمرين المحليين والأجانب واضحة: ما يُقال في المفاوضات الدولية شيء، وما يُنفذ في الداخل شيء آخر تمامًا. كيف يمكن لصندوق النقد أو لأي طرف أن يصدق نية “تمكين القطاع الخاص” بينما كيان عسكري واحد يبتلع حصصًا حاكمة في شركات مدرجة، ويستولي على بورصة سلعية، ويتمدّد في الزراعة والصناعة والخدمات؟

 

سوق “حرة” تحت سيطرة لاعب لا يَخسر

 

وجود جهاز عسكري يمتلك موارد وأراضي وإعفاءات واسعة، ويدخل منافسًا في نفس السوق مع شركات خاصة، يقتل مبدأ تكافؤ الفرص من جذوره. هذا اللاعب لا يخضع لنفس كلفة التمويل، ولا لضرائب مماثلة، وغالبًا ما يتمتع بقدرة على الحصول على أراضٍ وتراخيص وامتيازات لا يحلم بها مستثمر عادي. عندما يضخ مئات الملايين في البورصة لشراء أسهم شركات استراتيجية، فإن الأسعار تتحرك لصالحه، ويتمتع بقدرة على تحمّل الخسارة المؤقتة لأن خلفه موازنة عامة وجهاز دولة، بينما يُترك المستثمر الخاص محاصرًا بمخاطر أعلى وقواعد أشد. النتيجة النهائية هي “سوق” شكلية تخضع فعليًا لمركز ثقل واحد يرتدي بزّة عسكرية.

 

استخدام البورصة كغطاء لتكريس الاحتكار

 

هذه الصفقات تُقدَّم رسميًا كدليل على “نشاط” البورصة وزيادة أحجام التداول ودخول مستثمرين جدد، لكن الجوهر أن جهاز مستقبل مصر لا يدخل مضاربًا عابرًا، بل مالكًا طويل الأجل يسعى لوضع يده على مفاصل قطاعات كاملة. البورصة، التي من المفترض أن تكون أداة لتوسيع الملكية ونشرها بين آلاف المستثمرين، تُستخدم هنا كقناة لنقل ملكية من أيدٍ مدنية متنوعة إلى يد عسكرية مركزة، مع طبقة من السماسرة وشركات الوساطة تلعب دور الوسيط التقني لتجميل العملية. ما يجري ليس تعميقًا للسوق، بل تجريفًا لها لصالح كيان واحد.

 

تناقض مع أبسط مبادئ “الحوكمة” والشفافية

 

جهاز مستقبل مصر كذراع للقوات المسلحة لا يُحاسب أمام البرلمان بشكل حقيقي، ولا يقدّم ميزانيات مفصلة للرأي العام، ولا يُعرف على أي أساس تُتخذ قرارات الشراء والبيع، ومن يحدد الأسعار، ومن يتحمل الخسائر إن حدثت. حين يمتلك هذا الكيان معظم أسهم شركة لاستصلاح الأراضي أو حصة كبيرة في شركات غذاء ودواء، يصبح قرار التسعير والإنتاج وسياسات هذه الشركات جزءًا من غرف مغلقة داخل مؤسسة غير خاضعة لرقابة مدنية، ما ينسف الشعارات الرسمية عن “حوكمة الشركات” و“حماية حقوق المساهمين”. المساهم الصغير في هذه الشركات يجد نفسه شريكًا مع طرف لا يستطيع مساءلته، ولا حتى التنبؤ بحركته القادمة.

 

خصخصة شكلية وتأميم مقنَّع لصالح الجيش

 

حكومة الانقلاب تسوّق للعالم برنامج “طروحات حكومية” لتوسيع مشاركة القطاع الخاص، بينما الواقع الفعلي هو نوع جديد من التأميم: ليس تأميم الدولة المدنية كما كان في الستينيات، بل تأميم عسكري لصالح جهاز واحد يشتري عبر البورصة ما سبق أن باعتْه الحكومات بدعوى التحرير الاقتصادي. الخصخصة التي بدأها مبارك أخرجت الشركات من يد الدولة إلى رجال أعمال، أما المرحلة الحالية فتسحبها من يد رجال الأعمال والمساهمين إلى يد الجيش؛ أي من غياب رقابة إلى غياب أكبر للرقابة. النتيجة ليست سوقًا أكثر حرية، بل اقتصادًا مكمّمًا بالكامل تحت قيادة مؤسسة واحدة.

 

تهديد مباشر لأي أمل في اقتصاد مدني

 

ما يفعله جهاز مستقبل مصر ليس مجرد “استثمار”، بل إعلان واضح أن مستقبل الاقتصاد نفسه لن يكون مدنيًا بل عسكريًا. في ظل هذا الاتجاه، يصبح الحديث عن ريادة أعمال وقطاع خاص تنافسي وبنية استثمارية جاذبة مجرد دعاية لا علاقة لها بما يحدث على الأرض. المستثمر الجاد، المحلي أو الأجنبي، يرى أمامه خريطة تتسع فيها مناطق النفوذ العسكري يومًا بعد يوم، فينكمش أو يهرب أو يتحول إلى مقاول من الباطن لدى هذه الكيانات. ومع كل صفقة جديدة يبرمها الجهاز، تُدفن خطوة أخرى نحو اقتصاد حر، ويترسخ أكثر نموذج “جمهورية الشركات العسكرية” التي لا تنافس فيها إلا على الهامش، بينما يحتكر مركز السلطة – السياسي والاقتصادي معًا – كل شيء من الأرض إلى البورصة.