شريف هلالي
محام وباحث حقوقي مصري
ما جرى من وقائع مختلفة في مصر، منذ إجراء انتخابات مجلس النواب أخيرًا، يكشف عوارًا كبيرًا في مشهد الإجراءات هذا، ودور الجهة المشرفة على التصويت، وهو ما انعكس لاحقًا في تدخّل مؤسّسة الرئاسة لمواجهة ما حدث في المرحلة الأولى، ما يحمل دلالات متنوعة أهمها التجاوب مع الانتقادات الموجّهة إلى ما حدث من ظواهر شراء الأصوات الانتخابية من أحزاب الموالاة في مساندة مُرشَّحيها، وهو ما وثّقته فيديوهات كثيرة بثّها أنصار المُرشَّحين المستقلّين والمُعارِضين. ومثّل هذا التدخّل انعكاسًا للخلاف بين تكوينات القائمة الوطنية الموالية للدولة، وتضمّ أحزاب "مستقبل وطن" و"حماة وطن" و"الجبهة الوطنية" وآخرين، حول توزيع مقاعد الفردي وصراع الأنصبة بين الجهات الراعية لهذه الأحزاب. كما وضع هذا البيان الرئاسي علامات استفهام بشأن استقلالية الهيئة الوطنية للانتخابات المشرفة نظريًا على هذا المشهد، التي لم تقم بأيّ إجراء لتلافي تأثير المال السياسي والتربيطات التي كانت تحدث خارج اللجان، بمبرّر أنها غير مسؤولة عنها، وهو ما أدّى إلى تجاوب الهيئة من خلال إلغاء الانتخابات في 19 دائرة من دوائر المرحلة الأولى. ولاحقًا حكمت المحكمة الإدارية العليا في الطعون المُوجَّهة من المُرشَّحين في نتائج المرحلة الأولى بـ29 دائرة على المقاعد الفردية في 14 محافظة.
ويثير ما حدث من تزايد أحكام بطلان الدوائر الانتخابية عدة نتائج يمكن استخلاصها، أهمها غياب فكرة التنافس السياسي والحزبي من تلك الانتخابات، وهو ما يحدث منذ 2015، بسبب اعتماد نظام القائمة المطلقة وتوزيع مقاعد هذه القائمة على الأحزاب التي تساندها الأجهزة وترضى عنها الدولة، والهيمنة كذلك على المقاعد الفردية. أيضًا، ظاهرة شراء المقاعد المخصّصة لهذه الأحزاب من الراغبين في حجز مقعد بالمجلس من خلال دفع ملايين الجنيهات مقابل وضع اسمهم داخلها، وهو ما سبّب خلافات وفضائح في هذه الأحزاب. وقد حدثت تدخّلات أمنية وسياسية واضحة، وهو ما أظهره الفارق في التصويت لعدد كبير من المُرشَّحين المُقرَّبين من قائمة الموالاة بين المرحلة الأولى وبعد إعادتها، إذ هبطت أرقامهم من عشرات الآلاف إلى ألفي صوت، وهو ما يؤكّد أن ثمّة تلاعبًا قد حدث، ساعد على ذلك رفض هيئة الانتخابات تسليم محاضر تصويت اللجان الفرعية إلى مندوبي المُرشَّحين ووكلائهم، الأمر الذي فضحه بيان أصدره أحد نوادي النيابة الإدارية، التي يشرف بعض أعضائها على التصويت والفرز داخل اللجان. وهناك الانتقادات التي وجهتها المحكمة الإدارية العليا إلى هيئة الانتخابات لأنها لم ترفق محاضر الفرز في اللجان الفرعية والعامّة وإرسالها إلى المحكمة في أثناء نظرها إلى الطعون، ممّا عدّته قرينةً على صحة دعاوى الطاعنين.
تبرز هنا أهمية الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في كشف كثير من التجاوزات عبر فيديوهات البثّ المباشر، الأمر الذي جعل الجمهور مطّلعًا على تلك المخالفات. وقد لوحظ ضعف نسب إقبال الناخبين في الدوائر كلّها، وتكشف أرقام التصويت في عشرات الدوائر أن نسبة الإقبال راوحت بين 5 إلى 10% من إجمالي المُقيَّدين، وهو ما يزيد الشكوك في شرعية البرلمان. من ناحية أخرى، حاولت أجهزة الأمن ورؤساء اللجان التضييق على المُرشَّحين المُستقلِّين والمُعارِضين، فاحتجزت بعضهم وأحالتهم على النيابة العامّة، مثل ما حدث مع المُرشَّح طلعت خليل في السويس، والمُرشَّحة مونيكا حنّا في دائرة شُبرا، والمُرشَّح عصام بشتو في دمياط، ولاحقًا أُخلي سبيلهم. يضع ذلك كلّه علامات استفهام على مدى استقلال الهيئة الوطنية للانتخابات سواء في تشكيلة أعضائها، أو آلية اختيار جهازها التنفيذي الذي يختاره رئيس الجمهورية، فلم تقم بدورها المُفترَض في رصد المخالفات الانتخابية، وتجاهلت مدوّنة السلوك التي أصدرتها في مايو 2025، التي تؤكّد دورها الرئيس في رصد الانتهاكات ومراقبة مدى التزام المُرشَّحين والأحزاب السياسية والقوائم الانتخابية بأحكام المدوّنة بالتعاون مع الجهات والأجهزة المختلفة، واتخاذ التدابير والجزاءات المنصوص عليها حال وجود مخالفات من هذه الأطراف.
من جانب آخر، هناك ثغرات قانونية يمكن أن تمسّ شرعية المجلس، منها اقتصار بطلان التصويت في عدد من الدوائر على مقاعد الفردي من دون القائمة، رغم أن التصويت يتم بالورقة نفسها، وهو ما قد يفتح بابًا لطعون مستقبلية.
ويؤدّي تزايد أحكام البطلان في عشرات الدوائر (وصلت إلى 48 دائرة انتخابية)، بالإضافة إلى الطعون التي ستحكم فيها محكمة النقض لاحقًا في ما يتعلّق بمَن أُعلن فوزهم في المرحلتَيْن الأولى والثانية، إلى التساؤل عن مدى صحّة تعبيره عن إرادة الناخبين، وهو ما أدّى إلى دعوة سياسيين إلى إلغاء هذه الانتخابات، وضرورة إجرائها مرّةً أخرى من خلال قانون جديد يعتمد نظام القائمة النسبية والفردي، ويعيد تقسيم الدوائر الانتخابية مجدّدًا، مطالبين الرئيس باتخاذ قرارات من هذا النوع.
في النهاية، يُظهر هذا المشهد أن ما جرى لا يمتّ إلى الانتخابات النزيهة بصلة، وهو ما لا يقتصر على البرلمان، بل يمتدّ إلى كل الاستحقاقات الانتخابية التي تجريها الدولة، ومنها اتحادات الطلاب وغيرها، من خلال إغلاق السبل أمام المنافسين، ودعم قوائم موالية للدولة. ويؤكّد المشهد في المجمل فشل النظام الانتخابي الحالي في السماح بتمثيل أوسع للمستقلّين والأحزاب السياسية المعارضة، خاصّة التي لا تتمتّع بإمكانات مادّية واسعة، الذين يتطلّب منهم الترشّح مواردَ ماليةً كبيرةً تصل إلى 50 ألف جنيه مصري.
ولن يتغير الوضع إلا بإعادة صياغة قانون جديد للانتخابات وتقسيم الدوائر عبر نظام القائمة النسبية والفردي، على مستوى دوائر صغيرة تربط الأعضاء بهذه المناطق، كما حدث في انتخابات 2012، التي أتاحت تمثيلًا متنوعًا للقوى السياسية المختلفة، بالإضافة إلى ضرورة قيام الدولة وأجهزتها برفع أيديها عن العملية الانتخابية، سواء عبر هندسة القوائم الانتخابية أو استخدام إمكاناتها السياسية والإدارية في مساندة مُرشَّحين بعينهم، ومنع دخول آخرين الساحة، والعمل على صياغة قانون جديد للإشراف على الانتخابات عبر هيئة قضائية مستقلّة تضمّ تمثيلًا للحقوقيين والهيئات ذات الصلة.

