منذ أن خرج مصطفى كامل بتصريحاته عن وجود «ملفات فساد» تعود لعهد النقيب السابق هاني شاكر، بدا واضحًا أن النقابة تدخل مرحلة غير مسبوقة من كشف المستور. كامل لم يكتفِ بالتلميح، بل ربط بين فتح هذه الملفات وبين «المهاترات» والهجوم الذي يتعرض له، في إشارة إلى أن مقاومة الإصلاح تأتي من داخل المجلس نفسه. في الوقت ذاته، قدّم نفسه في صورة من يخوض «حرب تطهير» ضد شبكة مصالح متجذرة، لا مجرد إدارة يومية لشئون النقابة.

 

ملف العلاج في قلب العاصفة

 

القضية الأبرز التي فجّرت الأزمة هي ملف الخدمات العلاجية وما ارتبط به من اتهامات بمخالفات مالية جسيمة. وفق ما أورده مصطفى كامل، هناك مستندات تشير إلى صرف مبالغ علاجية وصلت إلى نحو 600 ألف جنيه في صورة تجاوزات في السقف العلاجي المسموح به للأعضاء وأسرهم، مع قيام بعض المسؤولين بإعفاء أنفسهم وأقاربهم من الرسوم بالمخالفة للوائح. في هذا السياق يأتي استبعاد الدكتور عاطف إمام، الذي قيل إن تحقيقًا تم إجراؤه بشأن ملفات تخصه هو ومحاميه، أمام مستشار من مجلس الدولة لضمان الشكل القانوني. اللافت أن كامل حرص على القول إنه أعاد بنفسه فروق مبالغ تحاليل طبية صُرفت له دون وجه حق، في محاولة لإرسال رسالة بأنه يطبق المعايير على نفسه أولًا، وأن ما يحدث ليس تصفية حسابات بل مراجعة شاملة للإنفاق في واحد من أكثر الملفات حساسية داخل النقابة.

 

إحالة حلمي عبد الباقي للتحقيق.. لا أحد فوق المساءلة

 

تطور آخر نوعي تمثل في إعلان إحالة وكيل النقابة، الفنان حلمي عبد الباقي، للتحقيق بقرار من مجلس الإدارة بسبب فروق مالية مرتبطة أيضًا بملف العلاج. هنا حاول مصطفى كامل تأكيد مبدأ «لا أحد كبير على التحقيق»، سواء كان نقيبًا أو وكيلًا أو عضو مجلس، في رسالة مزدوجة: من جهة يرد على اتهامات الانتقائية في الملاحقة، ومن جهة أخرى يضغط أخلاقيًا على كل من يرفض التعاون مع مسار المراجعة. هذه الخطوة تكشف أن أزمة النقابة لم تعد محصورة في شخص واحد (عاطف إمام)، بل تمتد إلى قلب الهيكل القيادي، بما يفتح الباب لصراع داخلي حاد بين من يعتبرون أنفسهم مستهدفين، وبين من يقدمون ما يجري بوصفه «تنظيف البيت من الداخل».

 

أرقام بالمئات الملايين.. إنجاز مالي أم ورقة دفاع؟

 

من النقاط التي ركّز عليها مصطفى كامل في دفاعه عن نفسه الحديث عن الأرقام المالية تحت ولايته. فهو يقول إنه تسلم النقابة في أواخر 2022 وفي حساباتها حوالي 69 مليون جنيه، بينما وصلت الأرصدة البنكية الآن إلى نحو 600 مليون جنيه، أي ما يقارب تسعة أضعاف خلال فترة قصيرة. كما يشير إلى أنه رفع معاشات الأعضاء لتصل إلى 2500 جنيه، معتبرًا أن هذا الرقم هو الأعلى بين النقابات المهنية في مصر. هذه الأرقام تُستخدم كسلاح في معركته؛ فمن ناحية يقدمها دليلًا على كفاءته وحرصه على المال، ومن ناحية أخرى يضع خصومه في زاوية صعبة: كيف تتهمون شخصًا زادت في عهده الأرصدة بهذا الشكل؟ لكن في المقابل، تحتاج هذه الأرقام إلى شفافية تفصيلية: ما مصادر هذه الزيادة؟ ما طبيعة الاستثمارات أو الرسوم أو التعاقدات التي أدت إليها؟ وكيف تُدار هذه الأموال من حيث الرقابة الداخلية والخارجية؟

 

دعوة للأجهزة الرقابية وصراع على صورة النقابة

 

المؤشر الأهم على جدّية المسألة هو مناشدة مصطفى كامل الصريحة لأجهزة الدولة الرقابية – الجهاز المركزي للمحاسبات، الرقابة الإدارية، والكسب غير المشروع – لمساندته في ما وصفه بـ«حرب التطهير» ضد «مفسدي الحياة النقابية». هذه الدعوة تضع النقابة تحت مجهر الدولة، وتحوّل الخلاف من أزمة داخلية إلى ملف عام يمكن أن يترتب عليه مساءلات جنائية في حال ثبوت إهدار أو استيلاء على المال العام. في الوقت نفسه، تعكس هذه الخطوة إدراكًا بأن الصراع داخل المجلس يتجاوز قدرة النقيب على الحسم منفردًا، وأنه يحتاج إلى غطاء رقابي رسمي لكسر مقاومة «مجموعة داخل المجلس لا تعمل معه وتعيق الإصلاح» كما قال. الصورة العامة إذن هي نقابة تقف عند مفترق طرق: إما أن تُستغل هذه اللحظة لإعادة بناء نظم الشفافية والرقابة، وإما تُختزل في صراع شخصي بين تيارات وفنانين تُستخدم فيه ملفات الفساد كسلاح سياسي.

 

النقابة بين فرصة الإصلاح وشبهة التصفية

 

ما يجري في نقابة المهن الموسيقية اليوم يضعها بين احتمالين متناقضين: إما أن تكون بصدد عملية إصلاح حقيقية تكشف جذور فساد قديم في ملفات العلاج والماليات وتعيد الاعتبار للحوكمة، أو تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات وإزاحة خصوم تحت لافتة «حرب التطهير». تصريحات مصطفى كامل عن فساد في عهد هاني شاكر، وإحالة أسماء ثقيلة مثل عاطف إمام وحلمي عبد الباقي للتحقيق، وأرقام الأرصدة والمعاشات، كلها عناصر تحتاج إلى ترجمة عملية في صورة تقارير مالية منشورة، وتحقيقات شفافة، ونتائج معلنة للرأي العام ولأعضاء النقابة. من دون ذلك، ستبقى الأزمة مفتوحة على مزيد من الشكوك والتخوين المتبادل، بينما يظل السؤال الحقيقي معلقًا: هل ستتحول هذه العاصفة إلى نقطة انطلاق لنقابة نظيفة تحمي أموال أعضائها وحقوقهم، أم إلى فصل جديد من فصول العبث بالحياة النقابية في مصر؟