في فصل جديد من فصول المأساة المصرية المستمرة، حيث أصبح قاع البحر المتوسط هو الملاذ الأخير لشباب ضاقت بهم الأرض بما رحبت في وطنهم، استيقظت محافظتا الشرقية والمنيا على فاجعة غرق مركب للهجرة غير الشرعية جنوب جزيرة كريت اليونانية.

 

الحادث الذي أسفر عن مصرع وفقدان 27 شاباً وطفلاً مصرياً، ليس مجرد حادث عارض، بل هو "جريمة مع سبق الإصرار" يتحمل وزرها نظام سياسي أغلق كل أبواب الأمل في وجه مواطنيه، ودفعهم دفعاً نحو الموت بحثاً عن حياة كريمة عزّت عليهم في ظل حكم العسكر.

 

بينما تنشغل حكومة الانقلاب بالترويج لإنجازات وهمية وبيع أصول الدولة، تتواصل قوافل النعوش العائمة في البحر، حاملة جثامين من فروا من الفقر والقمع.

 

المأساة الأخيرة كشفت عن وجه الدولة القبيح؛ شباب في عمر الزهور فضلوا المجازفة بأرواحهم في "مراكب الموت" عبر دول الجوار، بدلاً من البقاء في "الجمهورية الجديدة" التي لا مكان فيها للفقراء إلا في السجون أو القبور.

 

بيانات "رفع العتب" وتحميل الضحية المسؤولية

 

في تعاملها مع الكارثة، لم تخرج المؤسسة الرسمية عن نهجها المعتاد في "غسل اليدين" من دماء الضحايا.

 

فقد خرجت وزارة الخارجية وسفارة النظام في اليونان ببيانات باردة، تتحدث بلغة الأرقام والإجراءات البيروقراطية، مؤكدة وفاة 14 مصرياً وفقدان 13 آخرين باتوا في حكم الموتى، بينما يتم شحن الجثامين وكأنها بضائع.

 

الاستفزاز الأكبر جاء في ذيل البيانات الرسمية، التي جددت مناشداتها للمواطنين "بعدم الانجرار وراء عصابات الهجرة غير الشرعية حفاظاً على أرواحهم". وهي مناشدات تنطوي على انفصال تام عن الواقع، وتجاهل للأسباب الحقيقية التي تدفع هؤلاء الشباب للموت.

 

فالنظام يتحدث عن "اتباع الطرق القانونية" وكأنه لا يدرك أن سياساته الاقتصادية الطاحنة جعلت مجرد الحلم بالسفر القانوني رفاهية مستحيلة للغالبية العظمى.

 

بدلاً من الاعتذار للشعب عن الفشل الذي شرد أبناءه، يلوم النظام الضحايا الذين لم يجدوا خياراً سوى البحر، متجاهلاً أن "عصابات الهجرة" ما كانت لتجد زبائن لها لولا "عصابة الحكم" التي أفقرت البلاد والعباد.

 

الهروب الكبير.. الاقتصاد يغرق قبل المراكب

 

لا يمكن فصل حادث غرق المركب الذي انطلق في 7 ديسمبر الجاري عن السياق الاقتصادي الخانق الذي تعيشه مصر.

 

الضحايا القادمون من قرى الشرقية والمنيا هم نتاج سنوات من التهميش الممنهج وصعيد مصر المنسي، حيث تفتك البطالة وغلاء الأسعار بالأسر، وحيث انهارت قيمة العملة المحلية وتآكلت الطبقة الوسطى وسحقت الطبقة الفقيرة.

 

هؤلاء الشباب، وبينهم قصر، لم يخرجوا للسياحة، بل هربوا من واقع سودوي يفرضه نظام الانقلاب الذي أغرق البلاد في ديون لا طاقة للأجيال القادمة بسدادها، ووجه موارد الدولة لبناء القصور الرئاسية والمشاريع الخرسانية عديمة الجدوى، بينما يترك المواطن يواجه مصيره منفرداً أمام غلاء فاحش وخدمات منهارة.

 

إن قرار ركوب البحر، والمرور بدولة مجاورة (ليبيا غالباً) في رحلة محفوفة بالمخاطر، هو قرار يائس لا يتخذه إلا من فقد الأمل تماماً في وطنه.

 

لقد نجح النظام في شيء واحد فقط: تحويل مصر إلى بيئة طاردة لأبنائها، حيث أصبح الموت غرقاً احتمالاً مقبولاً مقارنة بالموت البطيء قهراً وجوعاً داخل الوطن.

 

مسلسل الموت المستمر.. من ليبيا إلى اليونان

 

هذه الفاجعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل استمرار السياسات الحالية. ففي يوليو الماضي فقط، ابتلع البحر 13 مصرياً قبالة سواحل ليبيا، في تكرار سينمائي مرعب لنفس المشهد

النظام يتباهى أمام أوروبا بأنه "حارس البوابة" الذي منع خروج المراكب من السواحل المصرية مباشرة، مقدماً نفسه كشريك استراتيجي في مكافحة الهجرة ليقبض الثمن دعماً سياسياً ومالياً.

 

لكن الحقيقة أن الشباب المصري، تحت وطأة اليأس، بات يسلك طرقاً أطول وأكثر خطورة عبر الحدود الغربية، ليركب البحر من نقاط أخرى، ما زاد من كلفة الموت ومعاناة الأهالي.

 

إن دماء الـ 27 شاباً مصرياً في هذا الحادث، ومن سبقهم من المئات، هي وصمة عار على جبين حكومة الانقلاب. هؤلاء ليسوا مجرد أرقام في بيانات الخارجية، بل هم شهادة حية على فشل دولة عجزت عن توفير أدنى مقومات الحياة لمواطنيها.

 

وبينما ينتظر الأهالي المكلومون وصول الجثامين لدفن فلذات أكبادهم، يبقى السؤال معلقاً: كم من الضحايا يحتاج هذا النظام ليدرك أن سياساته هي "المُهّرب" الأول والأخطر الذي يلقي بشباب مصر في التهلكة؟