حين تُدار حياة الناس اليومية بمنطق الأوامر لا بمنطق الخدمة العامة، يصبح المحافظ ومكتبه امتدادًا للثكنة لا للإدارة المدنية، وتتحول المحافظة إلى مساحة ضبط لا مساحة تنمية. هذا ما تكشفه أرقام قاعدة بيانات “صحيح مصر” عن تعيينات قيادات الحكم المحلي بين 2011 و2025، حيث تتقدم الخلفية العسكرية لتحتكر مواقع القرار التنفيذي في المحافظات على حساب المدنيين والقضاة.

 

عسكرة الإدارة.. لا خدمة المواطنين

 

وفق قاعدة البيانات، شهدت مناصب المحافظين ونوابهم والسكرتير العام 465 حركة تعيين وتنقّل خلال 2011–2025، بما يعكس إعادة تشكيل مستمرة للقيادات المحلية لا تستند إلى الاستقرار المؤسسي بقدر ما تستند إلى إعادة توزيع الولاءات. والأخطر أن العسكريين استحوذوا على قرابة 60% من إجمالي التعيينات مقابل نحو 37% للمدنيين، في انحياز واضح لصالح “الضبط والسيطرة” كأولوية سياسية لا كحل إداري. حين تصبح الخلفية العسكرية شرطًا شبه دائم للمنصب، تُقصى الخبرة المدنية المتخصصة ويُختزل الحكم المحلي في تنفيذ التعليمات لا إدارة التعقيدات الاجتماعية والخدمية.

 

تدوير القيادات.. لإحكام القبضة

 

لغة الأرقام هنا ليست محايدة: 278 عسكريًا مقابل 173 مدنيًا و14 قاضيًا فقط شغلوا هذه المناصب الثلاثة خلال الفترة نفسها، بما يكرّس نموذج “المحافظة المؤمّنة” بدل “المحافظة المُدارة”. كثافة التنقلات (465 حركة) تعني أن حكومة الانقلاب تتعامل مع الحكم المحلي كمنظومة قابلة لإعادة الضبط السريع، بحيث لا تتراكم الخبرة ولا تتشكل شبكات محاسبة محلية، بل تتشكل شبكة تنفيذ تتبع المركز وتُستبدل عند الحاجة. النتيجة المباشرة هي تضاؤل المسافة بين القرار الأمني والقرار الخدمي، وذوبان السياسة المحلية في منطق الإدارة بالأمر الواقع.

 

اختفاء القضاة.. وتآكل فكرة الرقابة

 

القضاة لم تتجاوز نسبتهم 3% (14 فقط) ثم اختفى وجودهم تمامًا في السنوات الأخيرة وفق نفس البيانات، وهي إشارة سياسية لا إدارية: استبعاد أي حضور محتمل لفكرة “المساءلة القانونية” داخل قمة الهرم التنفيذي المحلي. ومع غياب هذا التوازن، تتسع مساحة القرارات غير القابلة للطعن المجتمعي، ويصبح معيار الترقي هو القدرة على “الإنجاز السريع” بمعزل عن الشفافية والمشاركة والرقابة الشعبية. بهذا المعنى، لا تُعسكر حكومة الانقلاب المناصب فقط، بل تُعسكر تعريف الحكم المحلي نفسه: من خدمة الناس إلى إدارة الناس.