في شهادة وفاة رسمية لسردية "الإصلاح الاقتصادي" التي روج لها النظام المصري طوال 12 عامًا، نسف تقرير البنك الدولي الأخير "International Debt Report 2024" كل ادعاءات الحكومة من جذورها، كاشفًا عن واقع كارثي لا يمكن تجميله: مصر تسير بخطى ثابتة نحو الانهيار المالي والاجتماعي.
لم يكن ما جرى خلال العقد الماضي إنقاذًا للوطن، بل عملية تجريف ممنهجة لمقدراته، حيث تُباع الدولة قطعة قطعة تحت غطاء الدين، وتُغذّي الحكومة أزمة السيولة بتصفية الوطن ذاته. التقرير الدولي لم يكتفِ بالتحذير، بل شخص الحالة بكلمات حاسمة: "صفقات غير مستدامة"، "هشاشة هيكلية"، و"تآكل القدرة على الوفاء"؛ مصطلحات تترجم ميدانيًا إلى حقيقة واحدة: الكارثة قادمة، والسلطة هي من تصنعها.
أرقام الفزعة: دولة "على حافة التعثر"
صنف التقرير مصر ضمن الربع الأول من الدول الأكثر هشاشة من بين 75 دولة نامية، واضعًا إياها تحت تصنيف "Debt-stressed"، أي الدولة التي تقف على حافة التعثر المالي. هذه الوصمة الدولية تعني فقدان الثقة التام في قدرة مصر على السداد دون "تسول" خارجي مستمر.
وتتجلى الكارثة في المؤشرات الرقمية التي لا تقبل التأويل؛ حيث تلتهم خدمة الدين الخارجي وحدها نحو 15.7 مليار دولار سنويًا، وهو ما يمثل 49% من إجمالي إيرادات الصادرات البالغة 32 مليار دولار في 2024. بعبارة أخرى، نصف ما ينتجه الاقتصاد يذهب مباشرة لجيوب الدائنين، تاركًا الدولة عاجزة عن تمويل استيراد السلع الأساسية والدواء، وهو ما يفسر الاختفاء المتكرر للسلع والارتفاع الجنوني في الأسعار الذي يسحق المواطن يوميًا.
رهن السيادة: بيع الأصول كاستراتيجية بقاء
لم يتوقف التقرير عند أزمة السيولة، بل فضح ما هو أخطر: تجاوز نسبة الدين الخارجي إلى الصادرات حاجز 230%، متخطيًا الحد الآمن عالميًا (150%) بمراحل مرعبة. هذا يعني أنه لو توقفت الصادرات، ستحتاج مصر إلى سنتين و3 أشهر كاملتين لسداد ديونها الخارجية، مما يجعل الاقتصاد رهينة لأي هزة خارجية.
وللهروب من هذا المأزق، لجأ النظام إلى ما وصفه البنك الدولي بـ"الصفقات غير المستدامة" (Non-concessional deals)، وهي التسمية المهذبة لعملية بيع أصول الدولة السيادية. ما يحدث في "مرسى مطروح" هو التطبيق العملي لهذه الجريمة؛ تهجير قسري للأهالي، تعويضات لا تتجاوز 1.5% من القيمة السوقية، وتسليم موقع استراتيجي على الحدود الغربية وممرات الطاقة لمستثمر أجنبي بامتيازات تمتد لـ 30-50 عامًا، وكل ذلك بذريعة "الهيدروجين الأخضر" الواهية. الأرض تتحول لملكيات أجنبية، والمواطن يصبح غريبًا في وطنه، بينما تتبخر عوائد البيع في سداد فوائد الديون أو تمويل مشاريع "الشو الإعلامي".
الفاتورة الاجتماعية: تجويع الشعب لتمويل الدائنين
يدفع المواطن المصري ثمن هذه المغامرات من دمه وقوت يومه. الأرقام تكشف تراجع الإنفاق الاجتماعي من 38% في 2019 إلى 29% في 2025، بينما قفزت مخصصات خدمة الدين من 8% إلى 22% من الموازنة. الدولة اختارت بوضوح: سداد الدائنين أولى من تعليم الأطفال أو علاج المرضى.
النتيجة الحتمية هي انهيار الخدمات العامة؛ مستشفيات متهالكة، مدارس مكتظة، وبطالة متفاقمة نتيجة الاعتماد على "الأموال الساخنة" (سندات بفوائد 9-10%) التي تفر عند أول أزمة وتخلف وراءها انهيارًا في العملة وتآكلًا في القوة الشرائية. النظام لا يعيد هيكلة الديون (Restructuring) لتخفيف العبء، بل يكتفي بإعادة تمويلها (Refinancing)، أي استبدال ديون قديمة بديون جديدة بشروط أقسى، مُرحّلاً الكارثة للأجيال القادمة التي ستجد نفسها مدينة بأموال لم تشارك في اقتراضها ولم تستفد منها.
الخلاصة
تحذيرات البنك الدولي ليست "نصيحة" لحكومة رشيدة، بل هي "إدانة" لنظام يدمر سيادته المالية لتمويل بقائه. الحل ليس في "بيع الأراضي" ولا في التسول من الصناديق الدولية، بل في وقف فوري لبيع الأصول الاستراتيجية، وفرض رقابة شعبية على كل عقد يبرم، والتحول الجذري نحو إنتاج حقيقي بدلاً من اقتصاد "الريع والديون".

