لم يكن المشهد العبثي الذي سيطر على انتخابات مجلس النواب المنصرمة مجرد حدث سياسي عابر في تاريخ مصر الحديث، بل كان استحضاراً دقيقاً ومفزعاً لكابوس انتخابات 2010، تلك الانتخابات التي وصفها المؤرخون بأنها "المسمار الأخير في نعش نظام مبارك". اليوم، ومع اختلاف الوجوه، تكرر حكومة الانقلاب نفس السيناريو وبشكل أكثر فجاجة، حيث هندسة النتائج، وإقصاء المعارضين، واستخدام المال السياسي، في مشهد يؤكد أن النظام لم يتعلم شيئاً من دروس التاريخ، وأنه يسير بخطى ثابتة نحو حتفه، دافعاً البلاد نحو سيناريو ثوري جديد قد يكون أكثر عنفاً وشمولاً من ثورة 25 يناير.

 

إن ما جرى في الدوائر الانتخابية لم يكن تنافساً ديمقراطياً، بل كان عملية "سطو مسلح" على إرادة الناخبين. فمحاولات النظام البائسة لتجميل وجهه عبر إبطال نتائج بعض الدوائر في المرحلة الأولى بإيعاز مباشر من عبد الفتاح السيسي، ليست دليلاً على النزاهة، بل هي اعتراف صريح بوقوع الجريمة، ومحاولة فاشلة لامتصاص غضب المرشحين والشارع بعد أن فاحت رائحة التزوير وأزكمت الأنوف. إن النظام الذي يتدخل لإلغاء نتيجة، هو نفسه الذي هندس تزويرها في البداية، في لعبة "توزيع المقاعد" على المرضي عنهم أمنياً، بعيداً عن صناديق الاقتراع.

 

هندسة "الصناديق السحرية": إزاحة المرشحين وتبديل النتائج في اللحظات الأخيرة

 

لعل الدليل الأبرز على الفجاجة في التزوير هو ما كشفته وقائع دائرة المطرية بالجيزة، والتي فضحت الآلية البدائية التي يدار بها ملف الانتخابات. فصرخة محمد عبد الكريم زهران، المعروف بـ"مرشح الغلابة"، لم تكن مجرد شكوى خاسر، بل كانت وثيقة إدانة لآلية "القلب المفاجئ" للنتائج. فكيف لمرشح يتصدر جميع اللجان بامتياز، أن يجد نفسه فجأة في المركز الرابع بمجرد فرز "آخر لجنتين"؟

 

هذه الواقعة تعكس استخفافاً غير مسبوق بعقول المصريين وبالمنطق الحسابي. إن النظام لم يعد يكتفي بالتضييق الأمني، بل وصل إلى مرحلة "البلطجة الإدارية"، حيث يتم إجبار المرشحين المستقلين أو ذوي الشعبية الحقيقية على الانسحاب أو قبول الخسارة قسراً، رغم المؤشرات الرقمية التي تؤكد فوزهم. هذه الممارسات تؤكد أن برلمان الانقلاب ليس إلا "ديكوراً" يتم تركيبه في الغرف المغلقة، وأن وجود أي صوت معارض حقيقي، حتى لو كان مستقلاً وغير حزبي، يمثل رعباً لنظام يخشى الكلمة بقدر خشيته من الرصاص.

 

مزاد "المال السياسي": شراء الذمم وحرق الديمقراطية

 

إذا كانت "هندسة النتائج" هي الوجه الإداري للفساد، فإن "المال السياسي" كان وجهه القبيح في الشارع. ما حدث في المنصورة بالدقهلية، وتصريحات المرشح أحمد سلام الشرقاوي بقوله: "ولّعوا الدنيا بالفلوس"، يكشف أن المقاعد البرلمانية قد تحولت إلى سلع تباع وتشترى في مزاد علني يرعاه النظام. لقد تم إغراق الدوائر بالأموال لشراء الأصوات، بهدف وحيد وهو إقصاء أي مرشح مستقل لا يدين بالولاء التام للأجهزة الأمنية، حتى وإن كان يتمتع بشعبية جارفة.

 

وفي السياق ذاته، جاءت شهادة سحر عتمان، مرشحة حزب العدل، لتؤكد "استحالة" الفروق الرقمية التي ظهرت فجأة، حيث تجاوز الفرق بينها وبين الفائز "المعين" 8 آلاف صوت في غمضة عين. هذا التلاعب الفج بالأرقام وشراء الذمم لا يهدف فقط لتأمين أغلبية برلمانية، بل يهدف لكسر شوكة العمل العام، وإرسال رسالة مفادها أن المال والولاء الأمني هما الطريق الوحيد للبرلمان، وليس الكفاءة أو الشعبية. إن حكومة الانقلاب بذلك تؤسس لطبقة سياسية فاسدة، لا تمثل الشعب بل تمثل مصالحها الخاصة وشبكات الفساد التي تحميها.

 

شرعية الـ 1%.. برلمان "الأشباح" والقطيعة النهائية مع الشعب

 

أخطر ما في هذه المسرحية الهزلية هو ما اعترف به النائب المقرب من الأجهزة الأمنية، مصطفى بكري، حين أقر بتدني نسب المشاركة لتصل في بعض الدوائر إلى 1%. هذا الاعتراف الرسمي هو بمثابة إعلان وفاة للعملية السياسية برمتها. حينما يقاطع 99% من الناخبين الانتخابات، فهذا ليس عزوفاً، بل هو "فعل ثوري صامت"، ورسالة سحب للشرعية من النظام برمته.

 

إن نسبة الـ 1% تعني أن البرلمان القادم لا يمثل الشعب المصري، بل يمثل أقلية منتفعة أو مجبرة. هذه النسبة تعيد للأذهان أجواء ما قبل 2011، حينما فقد المواطن الثقة تماماً في قدرة الصندوق على التغيير، فأصبح الشارع هو البديل الوحيد. إن إصرار النظام على إنتاج برلمان "ملاكي" خالٍ من المعارضة، ومدعوم بالتزوير والمال السياسي، يغلق كل منافذ التنفيس السياسي، ويحشر المجتمع في زاوية ضيقة لا مخرج منها إلا الانفجار.

 

ختاماً، إن التشابه بين انتخابات 2010 وانتخابات هذا العام ليس مصادفة، بل هو نتاج عقلية استبدادية واحدة لا ترى في الشعب شريكاً بل عدواً يجب تدجينه. وكما كانت انتخابات 2010 الشرارة التي أحرقت شرعية مبارك وأدت لثورة يناير، فإن انتخابات اليوم، بكل ما حملته من قهر وتزوير واستخفاف، تضع الأساس المتين لموجة غضب قادمة، لن تجد لها متسعاً داخل قبة البرلمان المزيف، بل ستجد ساحتها في ميادين مصر وشوارعها.