في خطوة جديدة تنذر بمزيد من تآكل شبكة الحماية الاجتماعية المتهالكة أصلاً، أعلن رئيس حكومة النظام، مصطفى مدبولي، عن عقد اجتماع للجنة الإدارية للعدالة الاجتماعية الأسبوع المقبل، لبحث آليات التحول إلى الدعم النقدي.
ورغم التصريحات الحكومية "الوردية" التي تحاول تسويق القرار تحت ستار "الاطمئنان لآليات التنفيذ" ومنع الاضطرابات، إلا أن القراءة المتفحصة للمشهد تكشف عن نية مبيتة للتخلص التدريجي من مسؤولية الدولة في توفير الأمن الغذائي المباشر للمواطنين.
هذا التحول المرتقب ليس مجرد تغيير في آلية التوزيع، بل يراه مراقبون خطوة خطيرة نحو تفكيك منظومة الدعم العيني التي كانت تشكل خط الدفاع الأخير لملايين الأسر المصرية ضد الجوع، واستبدالها بفتات نقدي سرعان ما تلتهمه نيران الأسعار التي فشلت الحكومة في كبح جماحها على مدار سنوات.
رفع الغطاء عن الغلابة: الدعم النقدي.. أكذوبة "الكفاءة" في مواجهة انفلات الأسواق
تروج الحكومة لمصطلح "كفاءة الدعم" لتمرير قراراتها التقشفية، مستعينة بآراء تحاول تجميل الصورة. فبينما يشير الدكتور فخري الفقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، إلى أن التحول للدعم النقدي قد يحد من الهدر والتسرب، إلا أنه لم يستطع إنكار الحقيقة المرة التي يدركها كل مواطن مصري: "نجاح التجربة مرهون بضبط الأسعار".
كلمات الفقي التي جاءت بصيغة التحذير: "الدعم النقدي في ظل انفلات الأسواق يفقد معناه الاجتماعي"، تمثل إدانة غير مباشرة لسياسات الحكومة الحالية. ففي دولة تشهد أسواقها فوضى عارمة وغياباً تاماً للرقابة، يصبح الحديث عن دعم نقدي مجرد "نكتة مبكية". الأموال التي ستصرفها الحكومة اليوم لن تكفي لشراء نصف الكمية من السلع غداً، مما يعني عملياً تحويل الدعم إلى رقم "يتآكل" ويفقد قيمته الشرائية يوماً بعد يوم، ليجد المواطن نفسه يواجه التجار وحده دون ظهير حكومي يحميه.
تهديد الأمن الغذائي: التخلي عن "السلعة" لصالح "الوهم"
أخطر ما في هذا التوجه الحكومي هو المقامرة بالأمن الغذائي للفئات الأكثر فقراً. وهو ما حذر منه صراحة الدكتور وائل النحاس، أستاذ الاقتصاد، الذي نسف فكرة العدالة النظرية للدعم النقدي بمواجهة واقعية قاسية. يؤكد النحاس أن المشكلة الجوهرية تكمن في أن الدعم النقدي "لا يوفر الأمان الغذائي الذي يتيحه الدعم العيني".
تصريح النحاس بأن "الدعم العيني يضمن وصول السلع الأساسية حتى في أوقات الأزمات" يكشف عن الكارثة التي قد تحل بالفقراء. ففي أوقات الأزمات واختفاء السلع أو احتكارها – وهي ظواهر معتادة في ظل إدارة النظام الحالي للملف الاقتصادي – لن يفيد المواطن امتلاكه لورقة نقدية لا قيمة لها إذا لم يجد رغيف الخبز أو زجاجة الزيت. الحكومة بهذا التحول تغسل يديها من واجبها في توفير السلع استراتيجياً، وتلقي بالكرة في ملعب السوق المتوحش، مما يهدد بحدوث مجاعات مقنعة بين الطبقات المعدمة التي كانت تعتمد على "كرتونة التموين" للبقاء على قيد الحياة.
"إقصاء" المستحقين وتآكل القيمة: سياسة ممنهجة لإفقار ما تبقى من الطبقة المتوسطة
لم تتوقف التحذيرات عند حد الأمن الغذائي، بل امتدت لتكشف عن "مصيدة" القوة الشرائية. الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب دق ناقوس الخطر، محذراً من أن التحول للدعم النقدي دون زيادة حقيقية وموازية في الأجور والدخول "سيضعف القوة الشرائية للمواطن". ويستشهد عبد المطلب بتجارب دول نامية سقطت في نفس الفخ، حيث تآكلت قيمة الدعم مع الوقت وأصبح بلا جدوى. هذا الطرح يؤكد أن الحكومة تسعى لتقليص فاتورة الدعم رقمياً على الورق، متجاهلة الآثار التضخمية المدمرة على حياة الناس.
ومن زاوية أخرى، يفكك الخبير الاقتصادي الدكتور مدحت نافع خرافة "الاستهداف الدقيق" التي تتغنى بها الحكومة. فرغم حديثه عن الشفافية المحتملة، إلا أنه يحذر من أن النظام يحتاج لقواعد بيانات محدثة بدقة متناهية، مؤكداً أن "أي خطأ في الاستهداف قد يؤدي إلى إقصاء مستحقين حقيقيين".
في ظل البيروقراطية الحكومية المترهلة والفساد الإداري، فإن احتمالية "الخطأ" تصبح هي القاعدة وليست الاستثناء. المخاوف هنا حقيقية من استخدام "تنقية البطاقات" كذريعة لحرمان ملايين البسطاء من حقهم، تحت مسميات واهية وشروط تعجيزية، ليصبح المعيار الحقيقي لنجاح الحكومة هو "كم وفرت من الأموال" وليس "كم حمت من البشر". وكما ختم نافع: "المعيار الحقيقي لنجاح الدعم ليس شكله، بل قدرته على حماية الفئات الهشة"، وهو الاختبار الذي يبدو أن الحكومة قد رسبت فيه مسبقاً قبل حتى أن تبدأ.

