في حلقة جديدة من مسلسل الخداع الممنهج الذي تمارسه حكومة الانقلاب، أطلت علينا وزارة التموين بما أسمته "مبادرة السوق الواحد"، والتي رُوج لها كطوق نجاة للمواطن المسحوق تحت وطأة الغلاء. لكن الواقع على الأرض كشف عن وجه قبيح لمبادرة لا تعدو كونها "ساحة للخردة السلعية" وفوضى عارمة تفتقر لأدنى معايير الرقابة الصحية أو الآدمية.
فبدلاً من خفض الأسعار، تحولت هذه الأسواق إلى منافذ لتصريف السلع الرديئة التي تمت مصادرتها من التجار الشرفاء تحت شعار "محاربة الاحتكار"، لتُباع مرة أخرى للمواطن بأسعار لا تختلف عن السوق السوداء، وسط غياب كامل لرقابة الجودة.
إن ما يحدث في "السوق الواحد" ليس تنظيماً للتجارة، بل هو شرعنة للفوضى؛ حيث تُعرض الخضراوات والفاكهة مجهولة المصدر والتي تفتقر لشهادات الصلاحية، مما يضع صحة المصريين على المحك. وفي ظل نظام يقتات على الأزمات، تحولت هذه الأسواق إلى "فنكوش" إعلامي يستهدف تلميع صورة السلطة العاجزة عن ضبط الأسواق الحقيقية، بينما يواجه المواطن خيارات أحلاها مر: إما الجوع أو استهلاك سموم معروضة في أكياس حكومية.
سلع "مسروقة" وخضراوات مسرطنة.. استرخاص حياة المواطن
تعتمد مبادرة "السوق الواحد" في جزء كبير من معروضاتها على السلع التي تداهمها مباحث التموين في مخازن التجار، وهي عملية يصفها مراقبون بأنها "إعادة تدوير للمنهوبات" تحت غطاء القانون.
وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، أن غياب الرقابة على جودة المعروضات في هذه الأسواق العشوائية يمثل جريمة مكتملة الأركان. ويرى فؤاد أن الخضراوات والفاكهة المعروضة غالباً ما تكون من درجات رديئة جداً، وتفتقر لرقابة متبقيات المبيدات، مما يزيد من احتمالات إصابة المستهلكين بأمراض سرطانية وفشل كلوي نتيجة تلوث التربة أو استخدام مياه صرف صحي في الري، بعيداً عن أعين الرقابة المفقودة أصلاً.
إن عرض السلع في "السوق الواحد" يتم بطرق بدائية تفتقر لاشتراطات الحفظ والتخزين، حيث تتعرض المواد الغذائية لأشعة الشمس المباشرة وعوادم السيارات، مما يعجل بفسادها قبل وصولها ليد المستهلك. هذه الفوضى ليست مجرد إهمال، بل هي استراتيجية "استرخاص" تنتهجها حكومة الانقلاب تجاه الشعب، مفترضة أن الفقراء لا يستحقون سوى الفضلات والسلع التي رُفضت في الأسواق النظامية أو صُودرت من التجار بغير وجه حق.
فنكوش الأسعار.. جباية مقنعة وتضليل إعلامي
رغم الوعود الوردية بخفض الأسعار بنسبة تصل إلى 30%، إلا أن الأرقام على لافتات "السوق الواحد" تحكي قصة أخرى.
الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، يرى أن هذه المبادرات هي "مسكنات عقيمة" لا تعالج أصل المشكلة المتمثلة في انهيار القوة الشرائية للجنيه وفشل السياسات النقدية.
ويؤكد عبده أن الحكومة فشلت في توفير بديل حقيقي، وما تقدمه في هذه الأسواق هو سلع قديمة بأسعار السوق السائدة، مع فارق وحيد وهو رداءة الجودة، معتبراً أن "السوق الواحد" هو محاولة لامتصاص غضب الشارع عبر استعراضات إعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن التلاعب بالأسعار داخل هذه المنافذ يتم عبر عرض كميات ضئيلة من السلع "المدعومة" لجذب الكاميرات، بينما يُفاجأ المواطن عند الشراء الفعلي بأن الأسعار مطابقة لأسواق التجزئة الخارجية أو تزيد عليها بالنظر إلى تدني جودة المنتج.
هذا التضليل الممنهج يثبت أن وزارة التموين تحولت من جهة حماية للمستهلك إلى "تاجر شنطة" يسعى لتحقيق أرباح سريعة من سلع مصادرة، دون تحمل مسؤولية استقرار السوق أو توفير سلع استراتيجية بأسعار عادلة.
انهيار منظومة الرقابة وسيادة "سوق العبيد" الجديد
ما تطلق عليه حكومة الانقلاب "السوق الواحد" هو في حقيقته "سوق عشوائي" تسبب في شل حركة المرور وتدمير المظهر الحضاري للمدن، دون تقديم قيمة مضافة للاقتصاد.
الدكتور عبد النبي عبد الستار، الباحث والخبير الاقتصادي، يشدد على أن هذه المبادرة تفضح عجز الدولة عن إدارة منظومة التموين، حيث تلجأ السلطة لأساليب "البيع على الأرصفة" بدلاً من تفعيل الرقابة على الأسواق والمخازن الكبرى.
ويرى عبد الستار أن استمرار هذه المبادرة يؤدي إلى ضرب التجارة النظامية وتشريد صغار التجار لحساب كيانات تابعة لأجهزة بعينها تسيطر على توريد هذه السلع الرديئة.
إن الفوضى في العرض والطلب داخل هذه الأسواق تعكس حالة التخبط الإداري التي تعيشها حكومة الانقلاب، حيث تغيب أدوات القياس والمتابعة، ويُترك المواطن فريسة للبلطجة التنظيمية وسوء المعاملة.
"السوق الواحد" ليس حلاً للأزمة الاقتصادية، بل هو اعتراف صريح بالفشل في ضبط إيقاع السوق الرسمي، لترتمي الدولة في أحضان العشوائية، مقدمةً للشعب المصري سلعاً "مسرطنة" ومسروقة في إطار احتفالي بئيس يجسد قمة السقوط الأخلاقي والسياسي لنظام الانقلاب.

