في ظل شتاء قارس لا يرحم، وبينما تنتشر الإنفلونزا ومتحوراتها كالنار في الهشيم، يجد المواطن المصري نفسه أمام كارثة صحية مكتملة الأركان. لم يعد البحث عن "علبة دواء للبرد" أو "شريط مضاد حيوي" مجرد رحلة، بل تحول إلى "مهمة مستحيلة" في صيدليات باتت رفوفها خاوية إلا من مستحضرات التجميل.

 

أزمة نقص الأدوية في مصر لم تعد تقتصر على المستورد، بل طالت الأدوية الأساسية والمزمنة، وفيتامينات المناعة التي اختفت تماماً، لتترك ملايين المرضى في مواجهة الموت والألم بلا درع يحميهم. حكومة الانقلاب، كعادتها، تواجه الأزمة بتصريحات وردية عن "انفراجات وهمية"، بينما الواقع يؤكد أن منظومة الدواء في مصر تحتضر بفعل سياسات اقتصادية فاشلة جعلت من حق العلاج رفاهية لمن يملك الدولار فقط.

 

فشل حكومي وتضليل إعلامي: "الأزمة انتهت" في البيانات فقط

 

بينما يخرج علينا المسؤولون يومياً لتأكيد توافر الأدوية، تكشف رفوف الصيدليات حجم الكذب الرسمي. الدكتور محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، يفضح هذا التضليل بوضوح، مؤكداً أن "الأزمة لم تنتهِ بعد" وأن ما يتردد عن انفراجة هو مجرد "تسكين" للرأي العام. ويشير فؤاد إلى أن النقص يضرب أصنافاً حيوية ومنقذة للحياة مثل أدوية الهرمونات، وعلاج الذئبة الحمراء، وأدوية الغدة، بالإضافة إلى أدوية الأمراض العصبية والنفسية مثل "تريفيكتا" لمرضى الفصام و"ريمينل" لمرضى الزهايمر.

 

هذا "التعتيم" الحكومي يضع المريض في مواجهة مباشرة مع تجار السوق السوداء الذين استغلوا غياب الرقابة لرفع أسعار الأدوية الناقصة إلى أرقام فلكية، في وقت تخلت فيه الدولة عن دورها في توفير الحماية الاجتماعية والصحية لمواطنيها.

 

"بيزنس" التسعير وخضوع الحكومة لمافيا الشركات

 

الأزمة الحالية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج "خضوع" حكومي فاضح لشركات الأدوية التي تبتز الدولة والمواطن معاً. الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، يعترف بأن الشركات أوقفت الإنتاج والاستيراد عمداً لأن "تكلفة الإنتاج زادت بنسبة 30%" ولم تستجب هيئة الدواء لمطالبها برفع الأسعار بما يحقق لها هوامش ربح مرضية.

 

ويؤكد عوف أن الشركات المستوردة تفضل وقف التوريد وبيع منتجاتها في أسواق أخرى إذا لم تحقق الربح المطلوب، واصفاً الوضع بأنه "أزمة حقيقية" سببها ارتفاع تكاليف الإنتاج وليس نقص الدولار كما تروج الحكومة. هذا التصريح يكشف أن صحة المصريين باتت رهينة لحسابات "المكسب والخسارة" لدى حيتان السوق، بمباركة صامتة من حكومة لا تجرؤ على فرض سيادتها.

 

أكذوبة "البديل المحلي".. والمواطن حقل تجارب

 

في محاولة يائسة لتغطية العجز، تروج الحكومة لما تسميه "البديل المحلي" أو المثيل، لكن الحقيقة المرة يكشفها الدكتور محفوظ رمزي، رئيس لجنة التصنيع الدوائي بنقابة الصيادلة. فبينما يحاول رمزي الدفاع عن الصناعة الوطنية، يقر ضمنياً بأن فيتامين "سي" المحلي "غير متوفر" في بعض الأماكن بسبب تفضيل المواطنين للمستورد، وهو اعتراف بفقدان الثقة في المنتج المحلي الذي يعاني من ضعف الرقابة على الجودة.

 

المواطن المصري ليس غبياً ليدفع أضعاف الثمن في الدواء المستورد إذا كان المحلي فعالاً حقاً؛ لكن التجربة المريرة علمته أن "البديل" في عهد الانقلاب غالباً ما يكون أقل فاعلية، إن لم يكن "ماءً وسكراً" مغلفاً بشعارات وطنية جوفاء.

 

انهيار منظومة "الأمن الدوائي".. من يحاسب من؟

 

الدكتور محيي عبيد، نقيب الصيادلة الأسبق، كان قد حذر مراراً من "ارتعاش الحكومة" في إدارة ملف الدواء، مؤكداً أن القرارات المتخبطة هي التي ضاعفت الأزمة. ويرى عبيد أن استمرار الاعتماد على استيراد 95% من المواد الخام يجعل الأمن الدوائي المصري في مهب الريح مع أي تحرك لسعر الدولار. اليوم،.

 

وأصبحنا نرى صدق هذه التحذيرات؛ فمصر التي كانت تصدر الدواء، أصبحت عاجزة عن توفير "خافض حرارة" لأطفالها. إن غياب الرؤية الاستراتيجية، وترك سوق الدواء نهباً للاحتكارات، وسياسة "إطفاء الحرائق" بدلاً من الحلول الجذرية، كلها جرائم يجب أن يُحاسب عليها النظام الذي حول الدواء من "حق إنساني" إلى سلعة نادرة، وترك المرضى يواجهون شتاءهم القاسي بأجساد منهكة ومناعة منهارة، بانتظار معجزة إلهية في بلد مات فيه الضمير الحكومي.