في مشهد درامي يُلخّص الواقع المأساوي الذي يعيشه ملايين المصريين تحت وطأة حكم الانقلاب العسكري، تداول نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مؤثراً لسيدة مسنة مصرية، تستغيث بدموع القهر من قسوة الظروف المعيشية وتدهور الأوضاع الاقتصادية التي حولت حياة السواد الأعظم من الشعب إلى جحيم يومي.
السيدة التي ظهرت في الفيديو، ووجهها يحمل تجاعيد الزمن وآثار المعاناة، لم تكن تطالب برفاهية أو كماليات، ولا حتى بحقوق سياسية، بل كانت تطلق صرخة استغاثة بدائية بحثاً عن "لقمة العيش" والستر، في بلد بات فيه رغيف الخبز وسقف يحمي من البرد حلماً بعيد المنال لقطاعات واسعة من المواطنين.
هذه الاستغاثة ليست مجرد حالة فردية، بل هي "جرس إنذار" يكشف حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها سياسات الإفقار المتعمد، وسط مطالب شعبية وحقوقية بتدخل عاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
استغاثة مسنة مصرية من قسوة الظروف المعيشية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وسط مطالبة بتدخل عاجل لإنقاذها pic.twitter.com/fqE8NjAKy2
— شبكة رصد (@RassdNewsN) December 23, 2025
مش لاقية أكل".. استغاثات متكررة تكشف وجه النظام القبيح
لم تكن استغاثة هذه المسنة حالة معزولة أو استثنائية في مصر "الجديدة"، بل هي حلقة في سلسلة مآسي لا تنتهي، وتوثيق حي لانهيار شبكة الأمان الاجتماعي. فقد سبقتها حالات مشابهة هزت الضمير الإنساني، ولعل أبرزها فيديو السيدة "أميرة عبده" التي وصلت بها الحال لعرض أطفالها الأربعة للبيع، في سابقة تاريخية تعكس قمة اليأس، بسبب الفقر المدقع وعجزها عن توفير مأوى بعد طردها من شقتها، قائلة بمرارة: "مش لاقية أكل ولا مكان نقعد فيه".
هذه المشاهد الصادمة تعري الدعاية الرسمية التي يروجها إعلام النظام عن "حياة كريمة" و"إنجازات غير مسبوقة"، وتكشف الحقيقة المرة: الدولة تخلت عن مسؤولياتها الدستورية والأخلاقية تجاه مواطنيها، تاركة الفقراء وكبار السن فريسة للجوع والتشرد والمرض. وفي المقابل، تنشغل السلطة بجمع الجبايات وفرض الرسوم والضرائب التي لا يرى منها المواطن إلا مزيدًا من الإفقار، بينما تُنفق المليارات على قصور رئاسية ومشاريع ترفيهية لا تخدم سوى فئة ضيقة من المنتفعين.
الغلاء الفاحش: نار تحرق جيوب الفقراء وتلتهم الطبقة المتوسطة
تتزامن هذه الاستغاثات المؤلمة مع موجة غلاء طاحنة تضرب الأسواق المصرية بلا رحمة، حيث قفزت أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسب جنونية وصلت إلى 15% في فترات قصيرة، وارتفعت أسعار الوقود والخدمات لمستويات قياسية تفوق طاقة الاحتمال. هذا التضخم المتوحش لم يكتفِ بسحق الفقراء، بل أدى إلى تآكل القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة التي بدأت تنزلق سريعاً نحو الفقر.
التقارير الاقتصادية والحقوقية تحذر من أن معدلات الفقر الحقيقية في مصر قد تتجاوز حاجز الـ 38%، وهو رقم مرعب ومرشح للزيادة في ظل إصرار الحكومة على تنفيذ سياسات "الصدمة" الاقتصادية استجابة لشروط صندوق النقد الدولي المجحفة، دون أي اعتبار للبعد الاجتماعي أو حماية الفئات الأكثر هشاشة. المواطنون باتوا يتساءلون بمرارة ويأس في فيديوهاتهم المنتشرة: "مين هيكمل معاك لـ 2025؟"، في إشارة واضحة إلى فقدان الأمل في أي تحسن في ظل إدارة تدير الاقتصاد بمنطق "الجباية" وسحب الدعم، لا بمنطق "التنمية" والعدالة الاجتماعية.
دولة "المشاريع الوهمية": خرسانة للأغنياء وتجاهل للإنسان
وبينما يستغيث كبار السن والأرامل والأيتام من الجوع والبرد والتشرد، تواصل حكومة الانقلاب سياسة "الإنكار" والهروب إلى الأمام عبر الإعلان عن مشاريع "فنكوشية" عملاقة لا تمس واقع الناس ولا تحل أزماتهم. ففي الوقت الذي تعجز فيه أجهزة الدولة عن توفير سكن بديل لمسنة هُدم منزلها، كما حدث في وقائع سابقة موثقة، أو توفير معاش يغني عن السؤال، تستمر الحكومة في ضخ المليارات المقترضة في المدن الصحراوية الجديدة والعاصمة الإدارية التي لا يسكنها إلا الأشباح وصفوة الأغنياء.
هذا الانفصال التام والسافر عن الواقع يؤكد أن النظام الحالي لا يرى في المواطن المصري سوى "رقم" في معادلة مالية لزيادة الحصيلة الضريبية، وليس إنسانًا له حقوق وكرامة يجب صونها. إن استمرار تجاهل هذه الصرخات المكتومة تحت قهر الحاجة والخوف، والاكتفاء بالحلول الأمنية أو الإعلامية التجميلية، ينذر بانفجار اجتماعي وشيك قد لا تحمد عقباه، حين لا يجد الجائع ما يخسره سوى قيوده.

