في ظل أزمة معيشية خانقة يعيشها ملايين المصريين، جاء قرار رفع إيجارات المقار الحكومية في العاصمة الإدارية الجديدة بنسبة 50% ليعيد فتح ملف إدارة المال العام وأولويات الإنفاق الحكومي، ويكشف بوضوح الفجوة المتسعة بين خطاب الإصلاح الاقتصادي وواقع المواطنين.

 

فالقرار، الذي يضيف أعباء مالية جديدة على الموازنة العامة، لا يأتي بمعزل عن سياق أوسع من ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول من يتحمل كلفة هذه السياسات، ولماذا تُدار موارد الدولة بطريقة تُفاقم معاناة الفئات الأكثر هشاشة.

 

وخلال الأيام السابقة، عاد الجدل مجددًا حول الحي الحكومي في العاصمة الإدارية الجديدة، بعد تقارير تحدثت عن عروض خليجية لشراء مواقع حكومية بارزة في وسط القاهرة، من بينها أرض الحزب الوطني، ضمن مسار أوسع لبيع وتأجير أصول الدولة عقب انتقال الوزارات إلى العاصمة الجديدة. ويتزامن هذا الجدل مع قرار رفع إيجارات الحي الحكومي بنسبة 50%، في خطوة أثارت تساؤلات حادة حول منطق إدارة المال العام.

 

زيادة الإيجارات: أرقام بلا شفافية

 

في سبتمبر الماضي، أعلن خالد عباس، رئيس شركة العاصمة الإدارية الجديدة، رفع قيمة إيجارات الحي الحكومي من 4 إلى 6 مليارات جنيه سنويًا، مبررًا القرار بإضافة مبانٍ جديدة وتوسيع البنية التحتية والخدمات. غير أن عباس لم يوضح طبيعة هذه الإضافات أو حجمها، مكتفيًا بالتأكيد على التزام الحكومة الكامل بسداد الإيجارات وكلفة الاستهلاكات والخدمات، رغم أن الوزارات انتقلت فعليًا إلى الحي منذ نهاية 2023.

 

حي مكتمل… فلماذا الإيجار؟

 

يتكوّن الحي الحكومي من 10 مجمعات وزارية تضم 34 مبنى، إلى جانب مبنى رئاسة مجلس الوزراء ومقر البرلمان، على مساحة تقارب 430 فدانًا. ووفق بيانات رسمية سابقة، كانت شركة العاصمة الإدارية قد أعلنت في 2020 الانتهاء من تنفيذ الحي بنسبة 92%، ما يطرح تساؤلات حول ماهية “التوسعات” التي استُخدمت لتبرير الزيادة بعد سنوات من اكتمال المشروع وانتقال الحكومة إليه.

 

تكلفة الإنشاء ومنطق الاسترداد

 

لا توجد أرقام دقيقة معلنة لتكلفة إنشاء الحي الحكومي، إلا أن تصريحات لمسؤولين حكوميين ومسؤولي الشركة قدّرتها سابقًا بما بين 40 و60 مليار جنيه. وباحتساب إيجار سنوي قدره 4 مليارات جنيه عند بدء التحصيل في 2022، بدا أن الشركة تستهدف استرداد تكلفة الإنشاء خلال نحو عشر سنوات، قبل أن تقفز القيمة فجأة إلى 6 مليارات جنيه، في محاولة لتعويض التضخم وتراجع قيمة الجنيه. ويثير ذلك تساؤلًا أوسع حول جدوى تحميل الموازنة العامة أعباء إضافية لمشروع أُقيم أصلًا على أراضٍ منحتها الدولة لشركة مملوكة لها.

 

الدولة تؤجر للدولة.. ومن يحاسب؟

 

يثير نموذج تأجير الحي الحكومي إشكالية جوهرية: لماذا تدفع الحكومة إيجارًا لشركة مملوكة للدولة نفسها؟ فشركة العاصمة الإدارية مملوكة بنسبة 49% لهيئة المجتمعات العمرانية، و51% لجهات سيادية ممثلة في الجيش، ما يعني أن الأموال المتداولة داخل هذا النموذج تُحصَّل من دافعي الضرائب ثم تعاد توزيعها داخل كيان عام خارج نطاق الرقابة البرلمانية الكاملة.

 

وكان قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي قد برر هذا النموذج سابقًا بالقول إن الشركة “ناجحة” وتمتلك سيولة كبيرة في البنوك، في مقارنة بشركات حكومية خاسرة. غير أن هذا التبرير يفتح بابًا أوسع للأسئلة: هل تُقاس “نجاح” الشركات العامة بقدرتها على تحصيل الإيجارات من الحكومة نفسها؟ ولماذا لا تُدرج أرباح هذه الشركات في الموازنة العامة؟ وأين تقف حدود الفصل بين العام والخاص في كيانات تديرها جهات سيادية دون رقابة واضحة؟

 

في المحصلة، لا يقتصر الجدل حول الحي الحكومي على قيمة الإيجار أو زيادته، بل يمتد إلى نموذج إدارة الدولة ذاته، حيث تُدار مشروعات عامة ضخمة بأموال وأراضٍ عامة، ثم تُفرض كلفتها مجددًا على المواطنين، في معادلة تفتقر إلى الشفافية والمساءلة، وتعيد طرح سؤال قديم متجدد: لمن تُدار الدولة، وبأي منطق؟

 

في ظل هذا المشهد، تبدو معاناة الفقراء في مصر الغائب الأكبر عن حسابات السياسات العامة، إذ تُدار الموارد والأصول باسم “التطوير” و“النجاح” بينما تتراكم الأعباء على كاهل المواطنين محدودي الدخل. فبين ارتفاع الأسعار وتآكل الدخول، وتوجيه مليارات الجنيهات لسداد إيجارات ومشروعات داخل دوائر مغلقة بين مؤسسات الدولة، يجد الفقراء أنفسهم خارج معادلة الأولويات، يدفعون الثمن دون أن يلمسوا عائدًا حقيقيًا على حياتهم اليومية. وهكذا تتحول الدولة من أداة للحماية الاجتماعية إلى عبء إضافي، في واقع يكرّس اتساع الفجوة بين خطاب الإنجاز الرسمي، وحقيقة المعاناة التي يعيشها ملايين المصريين.