يرى مصطفى عبد السلام، رئيس قسم الاقتصاد في صحيفة "العربي الجديد"، أن صندوق النقد الدولي يتقن لعبة السياسة بمهارة لا تقل عن إتقانه لصياغة التقارير المالية، رغم تأكيده الدائم أن قراراته تستند إلى معايير اقتصادية وفنية بحتة. ويشير إلى أن تجارب دول عديدة، من بينها مصر والأرجنتين وباكستان وأوكرانيا والإكوادور وجنوب أفريقيا والأردن وتونس وكولومبيا وغانا وكينيا وأنغولا وبنغلادش، تكشف بوضوح أن الصندوق يتعامل بازدواجية صارخة مع الدول الأكثر استدانة منه، وفقًا لمستوى الرضا السياسي عن أنظمتها الحاكمة.

 

ويؤكد الكاتب أن الصندوق، عندما يكون راضيًا عن دولة ما، حكومةً ونظامًا سياسيًا، يفتح لها أبواب القروض والمنح والمساعدات على مصراعيها، ويتسامح مع تأخير السداد، أو مخالفة بنود الاتفاقات، أو التباطؤ في تنفيذ تعويم العملة، أو تحرير الأسواق، أو إلغاء دعم السلع والخدمات. بل قد يمنح تلك الدول قروضًا بعشرات المليارات في جلسة واحدة وبسرعة لافتة، أحيانًا دون ضمانات كافية أو ضامنين حقيقيين للسداد.

 

الدول المرضيّ عنها.. غضّ الطرف عن الفساد وسحق الفقراء

 

يوضح مصطفى عبد السلام أن صندوق النقد، في تعامله مع الدول المرضيّ عنها، لا يُبدي حماسًا حقيقيًا لمطالبتها بتطبيق برامج جادة لمكافحة الفساد، أو وقف تهريب الأموال وغسلها، أو الحد من الإنفاق العام التبذيري. كما لا يعارض تدخل الدولة ومؤسساتها السيادية في الاقتصاد على نحو احتكاري، مكتفيًا بمطالب شكلية مثل تحسين أرقام الموازنة، وتحقيق فائض أولي حتى لو كان صوريًا، وزيادة الاحتياطي الأجنبي ولو عبر قروض وودائع جديدة.

 

وفي المقابل، لا يرى الصندوق حرجًا في فرض إجراءات تقشفية بالغة القسوة تمس الغالبية العظمى من المواطنين، من فقراء وطبقة وسطى، بينما تبقى الطبقات الثرية والفئات المحمية سياسيًا بعيدة عن أي أعباء حقيقية. ويشير الكاتب إلى أن الصندوق لا يضع في حساباته الأوضاع المعيشية للمواطنين، ولا يهتز له جفن أمام سياسات تؤدي إلى نشر الفقر والجوع وارتفاع الأسعار.

 

العصا الغليظة للدول "المارقة"

 

بحسب رئيس قسم الاقتصاد في «العربي الجديد»، يتبدل أسلوب صندوق النقد كليًا عندما يتعامل مع دول ترفض دخول «بيت الطاعة» الخاص بمؤسسات بريتون وودز، التي تأسست عام 1944. ففي هذه الحالة، يستخدم الصندوق لغة خشنة وأدوات عقابية، تبدأ بتشويه صورة تلك الدول عبر تقارير سلبية، ولا تنتهي بإثارة القلاقل في أسواق المال والعملات، وربما الإيحاء لمؤسسات التصنيف الائتماني بخفض تصنيفاتها.

 

ويستشهد الكاتب بتجربة تركيا، التي ترفض الاقتراض من صندوق النقد رغم الضغوط التي تتعرض لها عملتها، معتبرًا أنها مثال واضح على دولة تواجه حروبًا مالية واستهدافًا مستمرًا بسبب خروجها عن عباءة الصندوق. ويخلص إلى أن الصندوق بات أداة مالية بيد القوى الكبرى في واشنطن وأوروبا، تُستخدم لمعاقبة الأنظمة غير المرغوب فيها ومكافأة الأنظمة المستبدة المرضيّ عنها سياسيًا.

 

مصر وصندوق النقد.. لماذا تغيّرت اللهجة؟

 

يتوقف مصطفى عبد السلام مطولًا عند الحالة المصرية، معتبرًا أنها نموذج صارخ لازدواجية معايير صندوق النقد. فعندما يكون الصندوق غاضبًا على مصر، يُخرج كل أوراقه الخشنة دفعة واحدة: تعويم الجنيه، رفع أسعار السلع الأساسية بما فيها الخبز والغاز، إلغاء دعم الوقود، بيع أصول الدولة، تقليص دور المؤسسات السيادية في الاقتصاد، فتح الباب أمام الأموال الساخنة، وزيادة الضرائب والرسوم.

 

لكن الصورة تغيّرت فجأة في المراجعة الأخيرة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، حيث اختفت معظم هذه المطالب، وتراجع الخطاب العقابي، ووافق الصندوق على صرف شريحتين من القرض دفعة واحدة بقيمة 2.5 مليار دولار، بل وأشاد بأداء الاقتصاد المصري، رغم الأزمات العميقة التي يمر بها. ويلاحظ الكاتب أن تقرير الصندوق الأخير خلا تقريبًا من عبارات التحفظ والتشدد التي ميّزت تقاريره السابقة، وجاءت انتقاداته أخف وأكثر دبلوماسية.

 

أسئلة مفتوحة بلا إجابات

 

يختتم رئيس قسم الاقتصاد في «العربي الجديد» قراءته بطرح تساؤلات جوهرية: ما الذي تغيّر بين مراجعة مارس، التي رفض فيها الصندوق صرف شريحة جديدة من القرض، ومراجعة ديسمبر التي اتسمت بالرضا والمرونة؟ ولماذا اختفى فجأة خطاب العقاب والضغط؟ ولماذا وافق الصندوق هذه المرة بلا تحفظات تُذكر؟

 

ويؤكد الكاتب أن الإجابة عن هذه الأسئلة ضرورية لفهم حقيقة العلاقة بين مصر وصندوق النقد، ولتحديد ما إذا كان الرضا الحالي نابعًا من تحسن حقيقي في الأداء الاقتصادي، أم من اعتبارات سياسية تتجاوز الأرقام والمؤشرات. دون ذلك، تبقى بيانات الصندوق – كما يرى – محل شك، وتظل ابتسامته لمصر ابتسامة سياسية أكثر منها اقتصادية.