وسط أجواء مشحونة واتهامات متبادلة بالتزوير وشراء الذمم، تختتم اليوم الأحد جولة الإعادة في 19 دائرة انتخابية بمصر، وهي الدوائر التي ألغيت نتائجها سابقاً بسبب "خروقات" جسيمة، لتعود اليوم وتشهد "فصلاً جديداً" من الانتهاكات التي تبدو أكثر فجاجة وتنظيماً.
فبينما تحاول الهيئة الوطنية للانتخابات تصدير صورة "العرس الديمقراطي" تحت إشراف قضائي كامل، تكشف التقارير الميدانية عن واقع مغاير تماماً، حيث تحولت اللجان في محافظات مثل الجيزة والبحيرة وقنا إلى "أسواق مفتوحة" لبيع الأصوات، وحلبات صراع تُستخدم فيها كل الأسلحة، من المال السياسي "الكاش" إلى الترهيب الأمني المباشر، في معركة تكسير عظام بين مرشحي حزب "مستقبل وطن" المهيمن، والمرشحين المستقلين الذين يحاولون النجاة بجلودهم من "الماكينة" التي لا ترحم.
المشهد في دائرة "إمبابة والمنيرة الغربية" بالجيزة كان الأكثر وضوحاً وتعبيراً عن هذه الفوضى، حيث رصد مراقبون وشهود عيان عمليات حشد ممنهجة، وتوزيع أموال علني، وتدخلات أمنية انتقائية، مما يطرح تساؤلات جدية حول نزاهة العملية برمتها، ومصير المقاعد الـ 35 التي يتنافس عليها 70 مرشحاً في هذه الجولة الحاسمة.
200 جنيه للصوت: "الجمعيات الخيرية" تتحول لغرف عمليات سوداء
لم تعد الرشوة الانتخابية تتم في الخفاء، بل باتت جزءاً من "البروتوكول" اليومي أمام اللجان.
ففي إمبابة، رصدت "المنصة" وشهادات ناخبين تحول بعض الجمعيات الخيرية في منطقة المنيرة الغربية إلى مراكز لتجميع بطاقات الرقم القومي، حيث يتم تسجيل أسماء الناخبين (خاصة النساء وكبار السن) مقابل 200 جنيه للفرد، ثم نقلهم جماعياً في سيارات ميكروباص تابعة لمرشح الحزب الحاكم (وليد المليجي) للتصويت.
هذه الآلية المنظمة تتجاوز فكرة "المال الفردي" لتتحول إلى "شراء جماعي" للأصوات تحت غطاء العمل الأهلي، مستغلة فقر المواطنين وحاجتهم.
تروي إحدى السيدات أمام مدرسة خديجة بنت خويلد كيف تم حشدها وجاراتها عبر "الجمعية"، مؤكدة أن التعليمات كانت واضحة بالتصويت لـ"رقم 1"، في مشهد ينسف مبدأ تكافؤ الفرص ويحول الانتخابات إلى مزاد لمن يدفع أكثر.
الداخلية طرف في الصراع
في تطور لافت، لم تكتفِ السلطة بدور المراقب، بل انخرطت في الصراع بشكل أثار الجدل.
فبينما غضت الطرف عن توزيع الأموال من قبل مرشح "مستقبل وطن"، سارعت وزارة الداخلية لإصدار بيان تعلن فيه القبض على ثلاثة أشخاص من حملة المرشحة المستقلة "نشوى الديب" بتهمة توزيع "وجبات غذائية" وتوجيه الناخبين.
الديب، التي وصفت ما يحدث بـ"الإرهاب الانتخابي"، أكدت أن المقبوض عليهم كانوا يجهزون طعاماً لمندوبيها الشرعيين وليس رشاوى للناخبين، مستغيثة برئيس الجمهورية لوقف "الترهيب" الذي تتعرض له حملتها.
هذا التدخل الأمني "بمكيالين" يرسل رسالة واضحة للمستقلين بأن "اللعب مع الكبار" له ثمن باهظ، وأن أجهزة الدولة قد تُستخدم كأداة لترجيح كفة مرشحي النظام، حتى لو تطلب الأمر تلفيق قضايا لحملات المنافسين بتهم واهية مثل "توزيع الساندوتشات"، بينما تمر "أظرف الـ 200 جنيه" بسلام.
إعادة بلا مصداقية: هل تُنتج الصناديق "برلماناً حقيقياً"؟
مع ختام التصويت اليوم، تتجه الأنظار إلى عملية الفرز وإعلان النتائج في 4 يناير، لكن الشكوك قد سبقت النتائج. فالدائرة التي أُعيدت انتخاباتها بسبب الخروقات، تشهد اليوم خروقات أشد وأعنف، مما يفرغ قرار الإعادة من مضمونه الإصلاحي.
الحضور المكثف لقوات الأمن أمام لجان بعينها (مثل مدرسة عثمان بن عفان)، والحشد "الميكروباصي" المنظم، والرشاوى العلنية، كلها مؤشرات تؤكد أن "هندسة الانتخابات" لا تزال هي العقيدة الحاكمة.
يرى مراقبون أن ما يجري في إمبابة وغيرها من دوائر الإعادة هو "بروفة مصغرة" لما آل إليه الحال السياسي في مصر؛ عملية شكلية تفتقر للروح الديمقراطية، وتُحسم نتائجها في الغرف المغلقة وعبر "ماكينات المال"، وليس في صناديق الاقتراع.
ومع استمرار تجاهل الهيئة الوطنية للانتخابات للشكاوى الموثقة بالفيديو (كما أعلنت نشوى الديب)، يبدو أن البرلمان القادم سيحمل نفس جينات "التزوير المقنن" والتمثيل المشوه لإرادة الناخبين.

