تغرق القاهرة في بحر من الأسمنت والإهمال الممنهج، فيما تواصل حكومة الانقلاب سياساتها المدمرة التي حولت العاصمة المصرية من مدينة تاريخية عامرة بالحياة إلى غابة إسمنتية خانقة. الأرقام لا ترحم، والحقائق أكثر قسوة: 32 كيلومترًا مربعًا من المساحات الخضراء اختفت خلال عقدين فقط، ليصبح نصيب المواطن القاهري أقل من متر مربع واحد، في مقابل المعيار العالمي الذي يوصي بتسعة أمتار مربعة للفرد.

 

هذه ليست مجرد أرقام باردة، بل كارثة بيئية وإنسانية متعمدة تكشف حجم الفشل والإخفاق في إدارة العاصمة الأكثر اكتظاظًا في الشرق الأوسط. بينما تنفق المليارات على مشاريع وهمية وعواصم جديدة لا يسكنها أحد، يختنق 24 مليون مواطن في القاهرة تحت وطأة التلوث والحرارة المرتفعة وانعدام المساحات الخضراء. الحكومة التي تدعي "التنمية" و"الإنجازات" تركت المواطنين يتنفسون سمومًا بدلاً من الأكسجين، وتتنقل بين حارات إسمنتية بدلاً من حدائق خضراء.

 

رماد المساحات الخضراء: جريمة بيئية موثقة بالأقمار الصناعية

 

الأدلة العلمية دامغة، وصور الأقمار الصناعية لا تكذب. دراسات اعتمدت على بيانات وكالة الفضاء الأوروبية من القمر الصناعي Sentinel-2 تؤكد أن القاهرة فقدت 24% من غطائها النباتي الحضري. حي حدائق القبة، الذي كان من اسمه نصيب، فقد 64% من مساحاته الخضراء، ليصبح نصيب المواطن 25 سنتيمترًا فقط - أقل من مساحة ورقة A4.

 

الجمالية خسرت 69% من خضرتها، وطرة 61%، والساحل 57%، والسلام 56%. هذا تدمير ممنهج لرئة المدينة، وليس إهمالًا عابرًا. حكومة الانقلاب التي تتشدق بـ"مصر الخضراء" تحولت القاهرة إلى صحراء إسمنتية. أكثر من 95% من أحياء القاهرة شهدت تقلصًا في المساحات الخضراء خلال السنوات الثماني الماضية، وأكثر من 3.1 مليون مواطن يعيشون في عشرة أحياء لا يتجاوز نصيب الفرد فيها عشرات السنتيمترات.

 

المطرية بـ650 ألف نسمة، الشرابية بـ202 ألف، منشأة ناصر بـ278 ألف - كلها أحياء تحولت إلى سجون إسمنتية بلا رحمة. أكثر من 30% من سكان القاهرة يعيشون في أحياء شبه معدومة الغطاء الأخضر. هذا ليس فشلًا في التخطيط، بل جريمة متعمدة ضد حق المواطنين في بيئة صحية.

 

الجزر الحرارية والتلوث القاتل: قنبلة صحية موقوتة

 

النتيجة الحتمية لهذه السياسات الكارثية هي تفاقم ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية، وارتفاع درجات الحرارة داخل المدينة بشكل خطير، ما يرفع استهلاك الطاقة للتبريد ويزيد الأعباء المالية على المواطنين الذين ينوءون تحت وطأة الأسعار الجنونية. المهندس أشرف الوكيل من معهد بحوث البساتين حذر من أن فقدان المساحات الخضراء يهدد التنوع البيولوجي ويزيد معدلات التلوث.

 

باحثون في المركز القومي للبحوث أشاروا إلى أن انخفاض الأشجار يضعف قدرة المدينة على امتصاص الملوثات الدقيقة، ما يزيد معدلات الأمراض التنفسية والقلبية. المواطنون يدفعون الثمن من صحتهم وأعمارهم، فيما تواصل الحكومة تجاهلها المريب. دراسة معهد بحوث البساتين أكدت أن اختفاء النباتات الأصلية والأشجار المعمرة يهدد النظام البيئي المحلي بأكمله.

 

الصورة البصرية للمدينة تدهورت، ومؤشر جودة الحياة الحضرية في القاهرة انخفض إلى مستويات مقلقة وفقًا لتقارير الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية. لكن حكومة الانقلاب منشغلة بالمشاريع الاستعراضية والقصور الرئاسية، بينما يختنق المواطنون بالحرارة والتلوث.

 

غياب المحاسبة والحلول: استمرار الكارثة بلا مبالاة

 

الأخطر من الأزمة نفسها هو غياب أي محاسبة حقيقية أو خطط جدية لمواجهتها. دراسات أوصت بـ14 توصية لإعادة القاهرة إلى وضع أكثر خضرة، منها إنشاء حدائق جديدة، حماية الأشجار، وتطوير سياسات حضرية مستدامة. لكن من سيستمع؟ الحكومة التي باعت أراضي الدولة لصالح رجال الأعمال والمقاولين، والتي سمحت بالزحف العمراني غير المنظم، لن تحاسب نفسها.

 

خبراء الاجتماع الحضري في جامعة عين شمس أكدوا أن تراجع الحدائق العامة قلل من أماكن التفاعل المجتمعي، ما أثر على الحياة الاجتماعية للسكان. المواطنون أصبحوا محاصرين في شققهم، بلا فضاءات عامة، بلا حدائق، بلا مساحات للتنفس. الوعي الشعبي يتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الحكومة تصم آذانها.

 

القاهرة تختنق، والمسؤولية تقع بالكامل على حكومة الانقلاب التي دمرت البيئة، وأهملت المواطنين، وحولت العاصمة إلى سجن إسمنتي لا يرحم. الحل يبدأ بمحاسبة المسؤولين، ووقف الفساد والإهمال، واتخاذ قرارات جريئة لاستعادة الأخضر المفقود. لكن هل ستستمع حكومة لا تسمع صرخات المواطنين؟