في الوقت الذي تحتفل فيه حكومة الانقلاب العسكري بزيارة بعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة والتوصل إلى اتفاق لصرف 2.5 مليار دولار إضافية، يعيش أكثر من خُمس الشعب المصري في فقر مركب يحرمهم من أبسط متطلبات الحياة الكريمة. المفارقة القاتلة أن نظام السيسي يقدم أرقام النمو الاقتصادي البالغ 4.4% وتراجع التضخم إلى 12% كدليل على "النجاح"، بينما 21% من المصريين يعانون حرماناً متزامناً في التعليم والصحة والسكن والخدمات الأساسية.

 

هذا النموذج الاقتصادي الوحشي يكشف أن "الإصلاح" الذي يتحدث عنه السيسي ليس إلا عملية منظمة لنقل الثروة من جيوب الفقراء إلى حسابات الأثرياء، تحت غطاء شرعية دولية يمنحها صندوق النقد. الطمأنينة التي يبيعها النظام للأسواق الدولية مدفوعة بدماء المصريين الذين يدفعون ثمن كل دولار يحصل عليه النظام من رفع أسعار الخبز والوقود والكهرباء والمياه.

 

نمو اقتصادي لمن؟ عندما تصبح الأرقام أداة خداع

 

الاحتفاء الحكومي بمعدل نمو 4.4% هو أكبر كذبة يُباع بها الوهم للمصريين. هذا النمو "الانتقائي" يتركز في قطاعات لا تمس حياة الغالبية، بينما القطاعات الإنتاجية الحقيقية تنهار تحت وطأة العسكرة والاحتكار. النمو الحقيقي يُقاس بتحسن مستوى معيشة المواطنين، لا بتضخم أرقام لا يشعر بها إلا أصحاب الامتيازات العسكرية والمقربون من دوائر السلطة.

 

المصريون يعيشون مفارقة مرعبة: اقتصاد "ينمو" بينما الفقر يتوسع، أسعار "تستقر" بعد قفزات جنونية محت القدرة الشرائية، و"إصلاحات" تعني عملياً رفع الدعم عن الفقراء وزيادة الأعباء على كاهلهم. تراجع التضخم من 30% إلى 12% لا يعني استعادة القدرة الشرائية التي فُقدت، بل يعني فقط أن سرعة النهب قد تباطأت قليلاً بعد أن نُهب كل شيء. وزير المالية أحمد كوجك يعلن بفخر الحصول على 1.2 مليار دولار من الصندوق، بينما يتجاهل أن كل دولار من هذه القروض سيُسدد من جيوب الأجيال القادمة التي ستُولد مديونة.

 

خصخصة الوطن لصالح العسكر: عندما يصبح الصندوق شريكاً في النهب

 

تشديد صندوق النقد على تسريع برنامج الخصخصة يكشف حقيقة صادمة: الصندوق يطالب بتقليص الدور الاقتصادي للدولة، بينما يتجاهل تماماً أن الاقتصاد المصري محتكر من القطاع العسكري الذي يسيطر على كل شيء من الأسمنت إلى المكرونة. الخصخصة في ظل هذه البنية المشوهة لا تعني تحرير السوق، بل تعني نقل ملكية ما تبقى من أصول الدولة إلى جيوب المقربين من النظام وشركاء الخارج.

 

كما أشار الكاتب أشرف دوابة، هناك "تحول في توجه الصندوق سواء في بيع شركات قطاع الأعمال العام وبالأحرى كذلك شركات الجيش، وهذا التحول يُبرز الأبعاد السياسية والاقتصادية معاً في إبرام صفقة القرن". لكن الواقع يقول إن الجيش لن يتخلى عن إمبراطوريته الاقتصادية مهما ضغط الصندوق، والنتيجة ستكون بيع ما تبقى من الشركات المدنية وتسريح عمالها، بينما تظل الشركات العسكرية تعمل خارج المنافسة والضرائب والرقابة.

 

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي يفخر بأن مصر سددت 38.7 مليار دولار من الديون خلال العام الجاري ، لكنه لا يخبر المصريين من أين جاءت هذه المليارات: من بيع رأس الحكمة، من بيع الشواطئ، من بيع الأراضي، من رفع الأسعار، من زيادة الضرائب، من تجويع الشعب. الدين يُسدد بثروات الوطن وقوت الفقراء، بينما من استدانوا هذه المليارات وأنفقوها على قصور ومشاريع فاشلة لا يُحاسبون.

 

"حماية اجتماعية" أم تخدير للغضب الشعبي؟

 

برنامج "تكافل وكرامة" الذي تتشدق به الحكومة كدليل على "اهتمامها" بالفقراء، ليس إلا عملية تخدير اجتماعي لمنع انفجار الغضب. المبالغ الهزيلة التي توزع لا تُخرج الأسر من الفقر، بل تبقيها على حافة البقاء، قادرة فقط على ألا تموت جوعاً، لكن عاجزة عن العيش بكرامة. كما أشار الكاتب ممدوح الولي، أصبح المصريون يعرفون أرقام الديون وطروحات الشركات من بيانات الصندوق لأن حكومتهم تخفي عنهم الحقائق.

 

الدعم النقدي يؤدي وظيفة سياسية لا اقتصادية: إبقاء الفقراء في حالة اعتماد كامل على الدولة، غير قادرين على الاحتجاج خوفاً من فقدان هذا الفتات. هذا ليس تمكيناً بل إذلال ممنهج، وليس حماية اجتماعية بل شراء للصمت بأبخس الأثمان. في نفس الوقت، تستمر هشاشة سوق العمل وانعدام فرص العمل المنتجة، فلا يوجد أفق حقيقي للخروج من دائرة الفقر.

 

السؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى سيظل صندوق النقد شريكاً في هذه المأساة؟ إلى متى ستُستخدم القروض الدولية لتمويل نظام فاشل يعسكر الاقتصاد ويفقر الشعب؟ الاستقرار الذي يحتفل به السيسي والصندوق هو استقرار المقابر، والأرقام الإيجابية التي يتباهون بها مكتوبة بدماء 21% من المصريين يعانون فقراً مركباً، وملايين آخرين على حافة السقوط في الهاوية. هذا ليس إصلاحاً اقتصادياً، بل جريمة اجتماعية ترتكب تحت غطاء دولي.