في ظل تصاعد الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، وتطبيع التطهير العرقي الذي يستهدف مليوني فلسطيني، اجتمع رجال نافذون في واشنطن وجدة والدوحة مؤخرًا لبحث خططهم المتخيلة لمستقبل غزة، في تجاهل صارخ للكارثة الإنسانية الجارية.
تستمر السياسات الاستعمارية الجديدة التي تميزت بها إدارة ترامب، مكرّرة ممارسات بريطانيا الاستعمارية في القرن العشرين. وتُجسد قصة لاجئة فلسطينية تُدعى لي، عاشت في مخيم البقعة بالأردن لعقود، تلك الاستمرارية. إذ كانت تلعن بريطانيا وهي تغوص في الوحل حافية القدمين لجلب مساعدات طبية لأحفادها، شارحة لحفيدتها أن هذه الدولة البعيدة الصغيرة تسببت في نكبتهم عبر وثيقة "وعد بلفور" عام 1917.
ليا، التي ولدت في قرية عراق المنشية جنوب فلسطين، هجّرت بعد حصار دام عشرة أشهر على يد عصابة الهاغاناه الصهيونية عام 1949، وقضت بقية حياتها لاجئة. فقدت زوجها وابنها، لكنها ظلت تنقل الذاكرة والصمود إلى أجيال لاحقة، تمامًا كما تفعل نساء غزة اليوم، ممن يعشن تحت القصف ثم يعدن رغم الركام لإعادة بناء ما تبقى.
الكوادر الطبية والمسعفون الذين هرعوا لإنقاذ الضحايا، وحملوا الشهداء بكرامة، بينهم 15 أُعدموا على يد الجيش الإسرائيلي رغم قيادتهم لسيارات إسعاف، هم أيضًا امتداد لصمود ليا. الرواية الرسمية الإسرائيلية التي أنكرت هذه الجريمة تكرّر الأكاذيب ذاتها التي بررت جرائم بريطانيا في فلسطين قبل عقود.
ورغم تقدير المجتمع الفلسطيني لفنانيه وكتّابه وعلمائه الذين يجسدون ثقافة مقاومة سامقة، تواصل بريطانيا تجاهل جرائم الإبادة الحالية كما تجاهلت نكبة الأمس. التقرير الطبي المنشور في مجلة "ذا لانسيت" يشير إلى أن عدد الشهداء قد يفوق الرقم الرسمي بـ40%، ما يعني أن نحو 50 ألف فلسطيني استشهدوا حتى الآن، معظمهم من النساء والأطفال. ومع ذلك، لا عقوبات ولا حظر أسلحة كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو روسيا.
النكبة الحالية توازي سياسات الانتداب البريطاني، الذي قمع الثورة العربية الكبرى في الثلاثينات، ونفى قادة فلسطينيين إلى مستعمرات بعيدة كسيشل وكينيا. في ذروة القمع، بلغ عدد الجنود البريطانيين في فلسطين 100 ألف وقُتل أو سُجن أو نُفي 10% من الرجال البالغين، وفقًا للمؤرخ رشيد الخالدي.
واحدة من ضحايا هذا القمع كان عيد الفضيليات، ابن عم لي، الذي أُعدم خلال الثورة. حفيدته، الباحثة عفاف الجابري، وثقت في كتابها الصادر عام 2024 "اللاجئات الفلسطينيات من سوريا إلى الأردن" كيف تتقاطع السياسات الاستعمارية والتمييز مع المعاناة المعاصرة. درست تجارب نساء فلسطينيات مهجرات من سوريا إلى الأردن، ممن عانين التمييز، والحرمان من الخدمات الصحية والتعليمية، والانفصال القسري عن عائلاتهن، والسجن، والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
بحسب الجابري، تم استبعاد هذه النساء من المساعدات الدولية بذريعة أنهن "لاجئات أونروا"، مما جعلهن خارج دائرة الحماية. كما أن سياسات الحكومة الأردنية بعد 2013 منعت دخول الفلسطينيين من سوريا، على عكس ما حدث مع اللاجئين السوريين، ما كشف عن شكل فريد من "العنصرية ضد الفلسطينيين"، حسب تعبير الكاتبة.
لكن رغم هذا التهميش، تكشف الجابري عن شجاعة وإبداع النساء الفلسطينيات في التكيف والنجاة، مما يعكس ما وصفه المفكر إدوارد سعيد في الثمانينات بـ"الفلسطينية" كهوية سياسية وثقافية مقاومة.
اليوم، تسعى نخب أمريكية نافذة إلى فرض مخطط يقضي بتهجير ملايين الفلسطينيين من غزة إلى الأردن ومصر، في محاولة لتحويل غزة إلى "ريفييرا شرق أوسطية" بلا سكانها الأصليين. لكن كما فشلت الأحلام الاستعمارية السابقة، سيفشل هذا المشروع أيضًا، لأن الفلسطينيين أثبتوا دومًا أنهم شعب لا يُمحى.