في عالم يفترض أنه بلا حدود، تتراجع حرية التعبير عند أول اختبار سياسي، وتصبح الخوارزميات ذراعًا رقمية لإعادة تشكيل الرواية. هكذا يبدو حال المحتوى الفلسطيني على منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، الذي يتعرض منذ شهور لحملة تضييق وحذف ممنهجة، تطال الأكاديميين والناشطين وحتى الحسابات الإخبارية، فقط لأنهم يوثقون جرائم الاحتلال أو يعبرون عن تضامنهم مع الضحايا.

قمع منظم تحت غطاء "المعايير المجتمعية"
يؤكد نشطاء وأكاديميون أن ما يجري على "إكس" لم يعد يُفسَّر بأنه "خلل تقني" أو "حالات فردية"، بل سياسة ممنهجة تسعى لإقصاء الرواية الفلسطينية عن الفضاء الرقمي. وتُمارس الرقابة تحت ذرائع فضفاضة مثل "المعايير المجتمعية"، التي يبدو أنها لا تُطبق إلا على الضحية.

"ما يحدث هو شكل جديد من أشكال التواطؤ"، يقول الأكاديمي الكويتي خالد العتيبي، مضيفًا: "المنصات التي ترفع شعارات حرية التعبير، باتت تفرض رقابة صارمة على كل من يدافع عن فلسطين. وجدت نفسي مطرودًا من فضاء رقمي استخدمته طويلًا لنصرة قضيتي الأولى، دون أن أرتكب مخالفة واحدة".

العتيبي يشير إلى أنه تلقى إشعارًا بإغلاق حسابه فجأة، تحت ذريعة "مخالفة المعايير المجتمعية"، رغم أن كل ما فعله هو نشر صور ومقاطع توثق جرائم الاحتلال. "أي مجتمع هذا الذي تُعد فيه صورة طفل تحت الأنقاض جريمة؟"، يتساءل العتيبي، مؤكدًا أن الأمر ليس استثناءً بل جزء من حملة أوسع.

"الخوارزميات ليست بريئة"
ويرى العتيبي أن خوارزميات المنصات مصممة بشكل يسمح بتجاهل التحريض العلني إذا كان صادراً عن طرف سياسي "مناسب"، بينما تُسكت كل صوت يتحدث عن حرية أو عدالة حين تكون فلسطين هي السياق.

وأضاف أن "الرقابة الرقمية باتت تُمارس استجابة لضغوط سياسية مباشرة من إسرائيل أو من حلفائها، وهو ما تؤكده تقارير صادرة عن مؤسسات دولية مرموقة، مثل هيومن رايتس ووتش (2023) ومؤسسة الحدود الإلكترونية – EFF (2024)".

واستشهد بتقرير "هيومن رايتس ووتش" المعنون Meta’s Broken Promises، وتقرير "EFF" حول التمييز الرقمي في غزة، اللذين يكشفان أن شركات كبرى مثل "ميتا" و"إكس" تُخضع المحتوى الفلسطيني لرقابة صارمة وتكبح وصوله.

"لم تعد هذه المنصات مجرد أدوات تواصل"، يقول العتيبي، "بل تحوّلت إلى أذرع رقمية للوبيات سياسية تعيد تشكيل الوعي العام، وتقيّد سقف الحريات". ويضيف: "حين يصبح الصوت الحر تهديدًا، والتضامن الإنساني جريمة، نكون قد دخلنا مرحلة جديدة من التواطؤ الرقمي".

"صوت الضحية محاصر"
من جهته، يقول الناشط الفلسطيني أدهم أبو سلمية، إن حذف حسابه – الذي تجاوز مليون متابع وحقق نحو ملياري تفاعل خلال عام واحد – "لم يكن إجراءً تقنيًا، بل محاولة صريحة لخنق القضية الفلسطينية".

ويضيف: "طوردتُ حتى على حسابي الثاني الذي وصل 100 ألف متابع، وتجاهلت المنصة جميع طلبات المراجعة، حتى تلك المقدمة من شركات مختصة بإدارة الحسابات".

ويشدد أبو سلمية، وهو باحث في العلاقات الدولية، على أن "كل حساب يُغلق، لا يُسكت فردًا فحسب، بل يُقتل محتوى توثيقي يشكل جزءًا من ذاكرة الحرب والمعاناة".

خطوات المواجهة.. من التقاضي إلى التضامن
يقترح أبو سلمية عدة مسارات لمواجهة هذه الرقابة الرقمية، تبدأ بتشكيل جهة قانونية قادرة على ملاحقة الشركات التي تمارس القمع في بلدانها الأم، مستندة إلى قوانين الحريات ومكافحة التمييز.

ومن بين الخطوات الأخرى:

توثيق الانتهاكات الرقمية وجمع الأدلة على حذف الحسابات وتقليل الوصول والتمييز في تطبيق السياسات.

رفع شكاوى جماعية عبر منظمات مثل Access Now، 7amleh، SMEX، وEFF.

تنسيق الجهود القانونية والإعلامية لرفع قضايا ضد هذه المنصات أمام محاكم أوروبية وأمريكية.

تنويع المنصات وعدم الاعتماد الحصري على "إكس"، ونقل المحتوى إلى تيليغرام، لينكدإن، إنستغرام، تيك توك، والمنصات اللامركزية.

إطلاق حملات تضامن دولية مثل #LetPalestineSpeak و#PalestinianVoicesMatter، وإشراك مؤثرين وصحفيين عالميين.

"معركة وعي"
يختم العتيبي حديثه برسالة مفعمة بالإصرار: "قد تُغلق الحسابات، لكن الذاكرة لا تُغلق. معركتنا اليوم لم تعد فقط معركة حدود وهوية، بل معركة وعي ورواية. ومن حاول إسكاتنا، منحنا سببًا أقوى لنواصل. ففي زمن تُحاصر فيه الكلمة كما يُحاصر الجسد، يصبح الصمت تواطؤًا، وتغدو المقاومة بالكلمة واجبًا لا خيارًا".