الغلاء يحرم المصريين من ارتياد المقاهي
الثلاثاء 22 أبريل 2025 08:00 م
منذ عقود طويلة، ارتبط المقهى في الخيال الجمعي المصري بمكان الحكاية والجدل والنقاش، وبأنه متنفس يومي يهرب إليه المواطن من صخب الحياة وضغوطها. لكن هذا الركن الأصيل في النسيج المجتمعي بات اليوم يعاني، مثل كثير من تفاصيل الحياة في مصر، من ضغوط الأزمة المعيشية المتفاقمة، التي أجبرت كثيرين على إعادة النظر في عادة ارتياد المقاهي، أو على الأقل تقليصها حدّ الانقطاع.
على رصيف منطقة المنشية، وسط الإسكندرية، يقف رمضان محمد، صاحب مقهى شعبي ورثه عن والده، يحدّق في الكراسي الخالية ويتذكر الأيام التي كان فيها المكان يعجّ بالروّاد. يقول الستيني بنبرة يملؤها الحنين: "كان المقهى ملتقى لناس من كل الفئات... الآن أصبح مجرد محطة عابرة، أو ذكرى باهتة".
طقوس تتلاشى
لطالما كانت المقاهي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمصريين، لكن موجات الغلاء المتتابعة غيرت المعادلة. في تقريره الشهري الأخير، أشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى ارتفاع أسعار البن والشاي والكاكاو بنسبة 9.2% على أساس سنوي، فيما قفزت واردات البن وحده بنسبة 161% خلال ديسمبر الماضي، مقارنة بنفس الشهر من العام السابق، ما انعكس مباشرة على أسعار المشروبات المقدمة في المقاهي.
"الزبون اللي كان بيقعد بالساعات، بقى بييجي يشرب كباية شاي ويمشي"، يقول العم رمضان، مضيفًا أن العادة القديمة في الجلوس الطويل والدردشة حول الشأن العام والسياسة والكرة تقلّصت، "بعضهم بقى ييجي بس في المناسبات، أو على فترات متباعدة".
تراجع الدخل ومخاوف البقاء
لم تقتصر آثار الأزمة على الزبائن، بل طاولت العاملين في القطاع. خالد الشاويش، شاب في العشرينيات يعمل نادلاً في مقهى بمنطقة عين شمس بالقاهرة، يشرح كيف تراجعت الإكراميات التي كانت تمثل النسبة الأكبر من دخله. "الدخل اتهز بشكل كبير. الزبون بقى بيحسبها كويس، ما بقاش يطلب كتير، ولا يسيب بقشيش زي زمان. واحنا بنعتمد على ده في المعيشة".
مديرو المقاهي أيضًا يحاولون التأقلم مع الواقع الجديد. في محافظة الجيزة لجأ كريم عبد الله إلى إنشاء ركن خاص للمشروبات السريعة بأسعار مخفضة، بينما اضطر آخرون إلى تقليص عدد العمال لتقليل النفقات."مش إحنا بس اللي زودنا الأسعار، كل حاجة غليت علينا: المواد الخام، الإيجارات، والكهرباء".
البحث عن بدائل
تحوّل كثيرون من مرتادي المقاهي، خصوصًا من محدودي الدخل، إلى بدائل أقل كلفة. فبدلاً من الجلوس على "القهوجي"، أصبحت اللقاءات تُنظّم في بيوت الأصدقاء أو في الحدائق العامة وعلى كورنيش البحر. يقول أحمد سعيد، موظف حكومي: "المقهى ما بقاش فسحة ميسورة زي زمان. دلوقتي بقيت أحسبها، وأدور على مكان مجاني أو أرخص".
أما محمود مكي، موظف في شركة خاصة، فصار يتجنب المقاهي الراقية ويتجه إلى الأماكن الشعبية، لكنه يؤكد أن حتى الأرخص لم يعد رخيصًا: "كوباية الشاي بقت تساوي تمن وجبة، فبقيت أطلب أرخص حاجة أو أتنازل عن طلعة القهوة أصلاً".
المقاهي كمؤسسات ثقافية
تلفت الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم إلى أن المقاهي لعبت تاريخيًا دورًا يتجاوز الترفيه، كونها "مؤسسات ثقافية واجتماعية نابضة". تضيف: "من مقاهي وسط القاهرة التي احتضنت نجيب محفوظ، إلى مقاهي الحواري الشعبية، كان المقهى مسرحًا للحياة اليومية، ومنبرًا للتعبير والتفاعل بين الناس".
لكنها ترى أن "التحولات الاقتصادية أفقدت المقاهي جانبًا كبيرًا من دورها، خاصة بين الطبقات الوسطى والفقيرة، ما يعكس اتساع الفجوة الاجتماعية وغياب العدالة في الاستهلاك الثقافي والترفيهي".
تحديات اقتصادية معقدة
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي محمد الشافعي أن أزمة المقاهي ليست معزولة، بل جزء من معادلة اقتصادية أشمل. "القهوة سلعة مستوردة، وارتفاع أسعارها عالميًا، مع تراجع الجنيه المصري، جعل الكلفة تتضاعف. ما يحدث في قطاع المقاهي هو مرآة لما يعيشه السوق المصري ككل".
ويقترح الشافعي خطوات يمكن أن تساعد أصحاب المقاهي في البقاء، مثل "تخفيض الضرائب، وتوفير المواد الخام بأسعار مخفضة، أو دعم الطاقة للمحال الصغيرة"، لافتًا إلى أن إنقاذ المقاهي هو إنقاذ لركن أساسي من الحياة اليومية في مصر.