طرحت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، في مقال للكاتب سام كيلي، موقفاً حاداً من التقارير التي كشفت عن مقترح جديد للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يقضي بنقل ما يقرب من مليون فلسطيني من سكان غزة إلى ليبيا، مقابل الإفراج عن 30 مليار دولار من الأصول الليبية المجمدة. ووصفت الصحيفة الفكرة بأنها "شريرة بقدر ما هي غبية"، معتبرة أن هذا الطرح لا ينفصل عن حملة يقودها البيت الأبيض تهدف إلى تطبيع جرائم الحرب التي تنفذها إسرائيل في القطاع.
اتهم المقال إسرائيل باستخدام القصف والمجاعة وتدمير البنية التحتية، وحتى استهداف المستشفيات والكوادر الطبية، كوسيلة لجعل غزة غير صالحة للعيش، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وصفتا ما يحدث هناك بأنه إما إبادة جماعية أو جريمة حرب. ورفض الكاتب الدخول في نقاش قانوني حول المصطلحات، مؤكداً أن الواقع واضح: حملة وحشية تستهدف المدنيين، تشارك فيها بريطانيا من خلال تصدير مكونات الأسلحة لإسرائيل، وتنظيم رحلات لطائرات تجسس تحلق فوق غزة بالتنسيق مع سلاح الجو الإسرائيلي.
وحذّر الكاتب من أن التاريخ سيحاسب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وحكومته على هذا التواطؤ، كما سيفعل الشعب البريطاني أيضاً. وأشار إلى النفاق الغربي في دعم أوكرانيا ضد بوتين، وفي الوقت ذاته دعم الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، لافتاً إلى أن كثيرين سيصفون هذا الموقف بالعنصري، خاصة أن الضحايا مسلمون داكنو البشرة.
رغم أن إسرائيل تألمت بصدق نتيجة لهجوم 7 أكتوبر الذي نفذته حماس، إلا أن الهجوم صُمم عمداً ليستفز ردة فعل مفرطة وغير متكافئة – وقد حصلت بالفعل. الآن، يستغل اليمين المتطرف الإسرائيلي هذا التصعيد للإعلان عن هدفه النهائي: السيطرة الكاملة على غزة. وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يريد إجلاء السكان "طوعاً"، فيما تواصل القوات البرية الإسرائيلية توغلها في القطاع بلا جدول زمني للمغادرة.
وصف الكاتب ذلك بالخطر الأخلاقي والسياسي، إذ فقدت إسرائيل حقها في الادعاء بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، بعد أن استولت على مساحات شاسعة من الضفة الغربية لصالح مستوطنات مخصصة لليهود فقط، وفرضت نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين. واستشهد بتقرير صادر عن منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية لحقوق الإنسان في عام 2021، الذي وصف سياسات الدولة بأنها "نظام فصل عنصري يهدف إلى تعزيز سيادة اليهود على الفلسطينيين".
ووصف التقرير سياسة إسرائيل تجاه غزة بأنها "تطهير عرقي"، وهو ما تؤكده تصريحات قادة أمنيين سابقين. ومن أبرز هؤلاء عامي أيلون، الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك (الأمن الداخلي)، الذي قال صراحة إن الحرب على غزة "ليست حرباً عادلة"، وإن استمرارها يهدد بانهيار إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية.
وانتقد المقال ضعف موقف زعيم حزب العمال البريطاني، كير ستارمر، الذي اكتفى بوصف منع إسرائيل للمساعدات عن غزة بأنه "غير مقبول"، رغم تدمير 80% من البنية التحتية في القطاع ومقتل ما يزيد عن 52 ألف شخص، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال. وقارن الكاتب هذا بالموقف الصارم تجاه روسيا، التي تخضع لعقوبات شاملة رغم أن عدد ضحاياها المدنيين في أوكرانيا أقل بكثير من ضحايا إسرائيل في غزة.
أشار المقال أيضاً إلى خطاب ألقاه الدبلوماسي البريطاني السابق والمسؤول الأممي الحالي، توم فليتشر، أمام مجلس الأمن، حيث تساءل: "هل ستتحركون لمنع الإبادة الجماعية في غزة؟"، إلا أن بريطانيا لم ترد، في حين وصف السفير الإسرائيلي هذا الخطاب بأنه "غير مسؤول ومتحيز".
ثم انتقل الكاتب إلى تشبيه مباشر بين ما يحدث في غزة وبين الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حين ذبحت ميليشيات الهوتو قرابة 800 ألف من التوتسي في أسرع مذبحة جماعية شهدها العالم منذ الهولوكوست. حينها، رفضت بريطانيا والولايات المتحدة استخدام مصطلح "إبادة جماعية" حتى لا تضطر إلى التدخل.
وحذّر الكاتب من أن عدم إيقاف المجازر الجارية في غزة اليوم سيقود إلى عواقب كارثية وطويلة الأمد، مؤكداً أن الفلسطينيين لن ينسوا خطط ترامب لنفيهم إلى دول أخرى كالأردن أو مصر – أو حتى تحويل أراضيهم إلى مشاريع سياحية كما يتخيل. والآن، يقترح ترامب إرسالهم إلى ليبيا، مقابل الإفراج عن الأموال الليبية المجمدة، دون أي اعتبار للواقع السياسي والأمني في ليبيا.
من جهة أخرى، عرضت صحيفة "إيكونوميك تايمز" الجانب العملي والدبلوماسي من هذه الخطة، مشيرة إلى أنها قوبلت برفض قاطع من الفلسطينيين والدول العربية على حد سواء. ورغم أن التقارير الواردة من "NBC News" تحدثت عن مشاورات بين إدارة ترامب وحكومة ليبيا، نفت السفارة الأمريكية في ليبيا ذلك، مؤكدة أنه لا وجود لأي خطط من هذا النوع.
وأكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن غزة جزء لا يتجزأ من فلسطين، وأن أي محاولة لتهجير سكانها تشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. بدوره، صرح القيادي في حركة حماس باسم نعيم بأن الفلسطينيين متجذرون في أرضهم ومستعدون للدفاع عنها.
عبرت جميع الدول العربية الكبرى – مثل مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر – عن رفضها المطلق لهذه الخطة. وشدد رئيس الانقلاب المصري عبد الفتاح السيسي على أن حل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يأتي على حساب مصر، مطالباً بحل دائم وشامل يُنهي الصراع.
من الناحية العملية، أوضحت الصحيفة أن ليبيا غير مؤهلة لاستقبال عدد ضخم من اللاجئين، فهي دولة تعاني من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية خانقة، ويبلغ عدد سكانها حوالي 7.3 مليون نسمة فقط، ما يعني أن استقبال مليون فلسطيني سيشكّل ضغطاً هائلاً على البنية التحتية والموارد المحدودة أصلاً. كما أن خيارات النقل – جواً أو براً أو بحراً – تواجه تحديات لوجستية خطيرة.
وشبّهت "إيكونوميك تايمز" هذه الخطة بنكبة عام 1948، حين طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم. وأشارت إلى أن تكرار مثل هذا السيناريو لن يمر دون معارضة واسعة، لا سيما أن القانون الدولي يحظر النقل القسري للسكان. كما نبهت إلى أن تنفيذ مثل هذه الخطة سيفتح الباب أمام طعون قانونية أمام المحاكم الدولية.
أعربت الأمم المتحدة، من جهتها، عن قلقها الشديد من هذا المقترح، مشيرة إلى أن التهجير القسري قد يُصنف كجريمة تطهير عرقي. وأكد أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، أن نقل الفلسطينيين من أراضيهم أمر مرفوض تماماً عربياً ودولياً.
واختتمت الصحيفة تقريرها بالقول إن الأولوية اليوم يجب أن تكون وقف إطلاق النار ومعالجة الكارثة الإنسانية في غزة، بدلاً من مناقشة خطط غريبة وخطيرة كهذه. وأكدت أن الخطة تواجه رفضاً ساحقاً، ما يجعل تنفيذها مستبعداً في الوقت الراهن.
ختاماً، يشير ما نشرته "الإندبندنت" و"إيكونوميك تايمز" إلى أن طرح ترامب الأخير لنقل سكان غزة إلى ليبيا لا يعكس فقط انعداماً للأخلاق، بل يفتقر أيضاً إلى أي واقعية سياسية أو إنسانية. وبينما تنزف غزة تحت نيران الحرب، تُطرح أفكار مجنونة كأنها حلول، في حين أن العالم بأسره يعرف أن الحل الوحيد العادل والآمن يمر عبر إنهاء الاحتلال، ووقف القتل، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره في أرضه – وليس في ليبيا، ولا في أي مكان آخر.
https://www.independent.co.uk/voices/trump-gaza-israel-starmer-b2752966.html
https://m.economictimes.com/news/international/us/trumps-gaza-relocation-plan-faces-fierce-backlash-from-arab-nations/articleshow/121245957.cms