ممدوح الولي
خبير اقتصادي ونقيب الصحفيين سابقًا
في ظل الحرب التجارية التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصين، بفرض رسوم جمركية بنسبة 145% على السلع الواردة منها التي جرى خفضها مؤخرا إلى 30% لمدة 90 يوما، بسبب العجز التجاري السلعي المزمن لها مع الصين، فإن الإدارة الأمريكية تتجاهل تحقيق الولايات المتحدة فائضا تجاريا مزمنا مع الصين بالتجارة الخدمية معها.
وهو الأمر الذي يتكرر مع دول كثيرة كانت الولايات المتحدة قد فرضت عليها رسوما جمركية عالية بسبب عجزها التجاري السلعي معها، ثم علقت تطبيقها لمدة 90 يوما في التاسع من الشهر الماضي.
وتشير البيانات الأمريكية لبلوغ الصادرات الخدمية الأمريكية بالعام الماضي لدول العالم 1.107 تريليون دولار، مقابل واردات خدمية بقيمة 812 مليار دولار لتحقق فائضا بتجارتها الخدمية بلغ 295 مليار دولار، وهي التجارة المعنية بالسياحة والنقل، والخدمات المالية، والترفيهية وغيرها.
لكن الولايات المتحدة التي فرضت رسوما جمركية على قطاعات سلعية هي الصلب والألومنيوم والسيارات بنسبة 25%، راحت تكرر تلك الرسوم قطاعيا بالتجارة الخدمية، حين تتجه لفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الأفلام السينمائية المستوردة، لحماية هوليود بعد قيام العديد من الشركات الأمريكية بإنتاج أفلامها بالخارج.
وتصدرت بريطانيا المرتبة الأولى بالتجارة الخدمية الأمريكية مع دول العالم بنصيب حوالي 10% وحدها، بعد تصدرها لقائمتي كل من الصادرات والواردات الخدمية الأمريكية، وجاءت كندا بالمرتبة الثانية تليها أيرلندا والمكسيك وسويسرا وألمانيا واليابان والهند والصين وفرنسا بالمركز العاشر، لتستحوذ الدول العشر على نسبة 53% من مجمل التجارة الخدمية، وما يهمنا هنا هو الميزان التجاري الخدمي لأمريكا مع تلك الدول، حيث حققت الولايات المتحدة فائضا خدميا مع الدول الخمسة الأوائل إلى جانب اليابان والصين، بينما حققت عجزا خدميا مع ثلاث دول هي ألمانيا والهند وفرنسا.
أعلى فائض خدمي مع أيرلندا
وحققت الولايات المتحدة فائضا خدميا مع ثمانية دول من الدول العشر الثانية بتجارتها الخدمية، وهي: سنغافورة وهولندا وكوريا الجنوبية وأستراليا والبرازيل وهونج كونج وتايوان والسعودية، بينما حققت عجزا خدميا مع إيطاليا وإسرائيل.
وحسب قيمة الفائض التجاري الخدمي الأمريكي بالعام الماضي، فقد تصدرت أيرلندا القائمة بنحو 62 مليار دولار، وكندا 35 مليار دولار والصين 32 مليارا وسنغافورة 27 مليارا والبرازيل 22 مليارا، وسويسرا 21 مليارا وهولندا 13 مليارا وأستراليا 16 مليارا وكوريا الجنوبية 11 مليارا، بينما كانت أعلى قيمة للعجز الخدمي الأمريكي مع ألمانيا بقيمة 4.4 مليارات دولار وفرنسا 4.3 مليارات وإيطاليا 3.7 مليارات دولار.
وقد يقول البعض إنه ربما كانت نتيجة التجارة الخدمية الأمريكية بالعام الماضي مختلفة عما كانت عليه بالسنوات الماضية، ولهذا سنستعرض حالة الميزان التجاري الخدمي الأمريكي مع أبرز شركائها بالتجارة الخدمية بالسنوات الخمس والعشرين الأخيرة الماضية، لتكون النتيجة مع بريطانيا وكندا تحقيق فائض خدمي بلا انقطاع.
واستمر الفائض الخدمي مع أيرلندا بالعشرين عاما الأخيرة، واختلفت الصورة مع المكسيك بتحقيق فائض مستمر معها لمدة 22 عاما حتى 2021، لتعود لتحقيق فائض بالعام الماضي بقيمة 2.5 مليار دولار، ومع سويسرا بالسنوات الخمس والعشرين الأخيرة عدا ثلاث سنوات، ومع اليابان عدا عام 2022، ومع الصين حققت فائضا خدميا بالسنوات الخمس والعشرين الأخيرة، الذي بلغ أقصاه عامي 2028 و2019 حين اقترب من الأربعين مليار دولار خلالهما، كما تخطى الثلاثين مليارا بسنوات أخرى منها العام الماضي ببلوغه 32 مليار دولار.
عجز خدمي مع ألمانيا وفرنسا
وتشابه الحال بتحقيق فائض خدمي مستمر بالسنوات الخمس والعشرين الأخيرة مع كل من: سنغافورة وهولندا وكوريا الجنوبية وأستراليا والبرازيل وماليزيا وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وتايلاند والأرجنتين والسويد ولكسمبورج وفنزويلا وبرمودا وفيتنام بالسنوات العشرين الأخيرة وهونج هونغ بالسنوات الاثنتي عشرة الأخيرة.
وعلى النقيض حققت الولايات المتحدة عجزا خدميا مستمرا بالسنوات الخمس والعشرين الأخيرة مع ألمانيا عدا ثلاث سنوات، ومع الفلبين بالسنوات الست عشرة الأخيرة وعجزا مع فرنسا بالسنوات الأربعة الأخيرة، وبالثمانية عشر عاما الأخيرة مع كل من اليونان والبحرين وكوستاريكا والدومنيكان، وهو ما يشير لتفوق كفة دول الفائض الخدمي على دول العجز الخدمي.
ويمكن تأكيد ذلك من خلال التجارة الخدمية الأمريكية مع قارات العالم، وحسب بيانات عام 2023 فقد حققت فائضا مستمرا منذ عام 1999 مع القارة الأوروبية والآسيوية والإفريقية، لكنها مع دول الأمريكيتين حققت فائضا مستمرا عدا عامين، ومع منطقة الشرق الأوسط عدا عامي 2003 و2004 مع أحداث غزوها للعراق.
ولم تذكر بيانات مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي عن التجارة الخدمية التفصيلية مع الدول حتى عام 2023، من الدول العربية سوى أربع دول هي السعودية والمغرب والأردن والبحرين، حيث حققت فائضا مستمرا مع السعودية منذ عام 1999، لكنها حققت فائضا مع المغرب منذ عام 2006 فيما عدا عامين، وفائضا مع الأردن بالفترة نفسها فيما عدا آخر عامين، لكن الصورة مع البحرين كانت مختلفة بتحقيق عجز خدمي مستمر منذ 2006 وحتى العام الأسبق.
فائض خدمي وسلعي مع هولندا
وفي النهاية لا نتوقع أن يؤدي الفائض الخدمي الأمريكي مع العالم لتراجعها عن فرض الرسوم الجمركية على دول العالم، والبالغ نسبتها حاليا 10% وأعلى من ذلك للصين، وسيكون مبررها أن الفائض الخدمي بها يبلغ 295 مليار دولار، بينما العجز التجاري السلعي مع العالم 1.2 تريليون دولار أي أربعة أضعاف الفائض الخدمي، وهو ما يتضح مع غالبية الشركاء التجاريين الرئيسيين لها.
فإذا كانت قد حققت فائضا خدميا مع أيرلندا بقيمة 62 مليارا فقد قابله عجز سلعي معها بقيمة 87 مليار دولار، ومع كندا فائض خدمي 35 مليارا مقابل عجز سلعي 63 مليارا، ومع الصين فائض خدمي 32 مليارا مقابل عجز سلعي 295 مليارا، واليابان 4 مليارات فائض خدمي وعجز سلعي 68.5 مليارا، والمكسيك فائض خدمي 2.5 مليار وعجز سلعي 172 مليارا والأمر نفسه مع كل من فيتنام، وتايوان، وماليزيا، وغيرها.
لكن الصورة ليست قاتمة تماما فهناك العديد من الدول التي تحقق الولايات المتحدة معها فائضا خدميا وسلعيا كذلك، ومنها هولندا بفائض خدمي 18 مليار دولار وفائض سلعي 55.5 مليارا، ومع أستراليا فائض خدمي 16 مليارا وسلعي 18 مليارا، ومع البرازيل فائض خدمي 22 مليارا وسلعي 7 مليارات دولار.
وهو الأمر نفسه مع كل من سنغافورة والسعودية وهونج كونج وإنجلترا، بحيث يجب ألا تخضع تلك البلدان للرسوم الجمركية الإضافية الأمريكية، وفي الوقت نفسه يمكن تركيز التفاوض مع الدول التي تحقق معها الولايات المتحدة عجزا خدميا وسلعيا معا، وأبرزها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسرائيل والهند والفلبين.
ولعل ذلك يفسر لماذا كان الاتفاق التجاري الأمريكي الأول لها مع بريطانيا، بخفض الجمارك الأمريكية على الصلب والألومنيوم منها من 25% إلى صفر%؟ وتخصيص حصة تصديرية لبريطانيا 100 ألف سيارة إلى السوق الأمريكية بتعريفة 10% فقط؟ لأن أمريكا تحقق فائضا معها سواء بالتجارة السلعية أو بالتجارة الخدمية.