أطلق إعلان الحكومة الإسرائيلية عن توسيع عمليتها العسكرية نحو احتلال مدينة غزة وإخضاع القطاع لسيطرة مباشرة موجة استنكار دبلوماسيًا وإعلاميًا وسياسيًا إقليميًا ودوليًا.

في مقدمة الرفض برز موقفان متطابقان ومؤثران: مواقف رسميّة مصرية وتركية اتّسمت بالحدة في اللغة والتحذير من تداعيات هذه الخطوة على الأمن والاستقرار الإقليميين، وملاحظين دوليين رأوا في هذا التصعيد تهديدًا لقواعد القانون الدولي والجهود الدبلوماسية لوقف النار وإيصال المساعدات.

في هذا التقرير نعرض ملامح هذا الرفض، تصريحات القادة، آراء خبراء وسياسيّين، وتحليلات مراقبين عن دلالات هذه التطورات.

وفي تحول لافت على مستوى الخطاب السياسي، أصدرت كل من القاهرة وأنقرة تصريحات حادة ضد المخطط الإسرائيلي الرامي لاحتلال قطاع غزة وفرض السيادة على الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين.

هذا الموقف المتقارب بين البلدين — اللذين جمعتهما سنوات من الخصومة السياسية — جاء في لحظة إقليمية ودولية حساسة، حيث تتصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، ويزداد الضغط الإنساني على أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين داخل القطاع.

لكن، ورغم اللهجة الحادة التي خرجت من الجانب المصري، فإن المراقبين والخبراء يؤكدون أن الموقف الرسمي للقاهرة يبقى متناقضًا بين الخطاب والممارسة، إذ تُتهم حكومة عبد الفتاح السيسي بأنها طرف أساسي في استمرار الحصار، بل ومشارك في سياسة تجويع غزة عبر تشديد القيود على معبر رفح.

 

الموقف المصري: بين حسابات الأمن وضغوط الشارع

منذ بداية العدوان الحالي على غزة، حرصت القاهرة على التأكيد علنًا أنها ترفض أي محاولة لتهجير سكان القطاع إلى سيناء، واعتبرت ذلك “خطًا أحمر يمس الأمن القومي المصري”.
لكن على الأرض، تشير التقارير الميدانية وشهادات منظمات حقوقية إلى أن السلطات المصرية أبقت معبر رفح مغلقًا معظم الوقت أمام قوافل المساعدات، أو فتحت أبوابه بشكل انتقائي تحت شروط إسرائيلية صارمة.

خبراء سياسيون كالدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، قال في تصريحات متداولة:

"لا يمكن أن تكون وسيطًا نزيهًا بينما تساهم في حصار الطرف الأضعف. مصر مطالبة اليوم باتخاذ قرار واضح: إما رفع الحصار بالكامل أو الاعتراف بأنها طرف فيه."

أما تلناشط الحقوقي نجاد البرعي علّق على وسائل التواصل الاجتماعي:

"لا يكفي أن نقول إننا ضد التهجير، بينما يموت الناس جوعًا على بعد أمتار من معبر رفح. إذا أردت أن تكون إنسانيًا، افتح الباب أمام الدواء والغذاء أولًا."

وكتب الصحفي وائل قنديل،:

"التصريحات الحادة من القاهرة لن تُطعم طفلًا واحدًا في غزة، ما لم يصاحبها فتح كامل للمعبر ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال."

لكن في نظر منتقدي النظام، هذه الحسابات لا تبرر استمرار سياسة إغلاق المعبر وتأخير دخول الإمدادات الطبية والغذائية، وهي سياسات يرونها شراكة فعلية في خنق غزة.

 

الموقف التركي: خطاب هجومي ومبادرات دولية

على الجانب الآخر، اتخذت تركيا موقفًا أكثر تحررًا في الخطاب والمبادرة.
الرئيس رجب طيب أردوغان وصف علنًا ما يحدث في غزة بأنه “إبادة جماعية” و“جريمة حرب مكتملة الأركان”، وانتقد الغرب بسبب “ازدواجية المعايير” في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.
كما دفعت أنقرة بمبادرات في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية لمحاسبة إسرائيل، وفتحت قنوات اتصال مع دول عربية وإسلامية وأفريقية لتنسيق ضغط دبلوماسي أكبر.

تركيا لا تملك حدودًا مع غزة، لكن سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة خطابها الإقليمي، في محاولة لكسب تعاطف الشعوب المسلمة واستعادة نفوذها في الشرق الأوسط.

 

التقاطع بين الموقفين

ورغم التباين الكبير في طبيعة الأدوات المتاحة لكل بلد، إلا أن هناك نقاط التقاء واضحة بين القاهرة وأنقرة في هذه الأزمة:

رفض مطلق لأي مشروع تهجير جماعي للفلسطينيين خارج حدود القطاع.
التحذير من تداعيات خطيرة على استقرار المنطقة إذا مضت إسرائيل في مخططها.
الدعوة إلى وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية.
لكن الفرق الجوهري يكمن في المصداقية الميدانية: ففي حين تمارس تركيا خطابًا داعمًا بلا التزامات أمنية تجاه إسرائيل، تُتهم مصر بأنها ترفع سقف خطابها في الإعلام، لكنها على الأرض تلتزم بالشروط الإسرائيلية وتبقي معبر رفح أداة ضغط على المقاومة وسكان غزة.

 

اتهامات لمصر بالمشاركة في تجويع غزة

منظمات حقوقية فلسطينية ودولية اتهمت القاهرة بالمشاركة في سياسة العقاب الجماعي ضد سكان غزة، عبر:

فرض قيود مشددة على دخول الشاحنات.
السماح بمرور المساعدات بعد تنسيق طويل ومعقد مع سلطات الاحتلال.
منع أو تأخير دخول بعض المواد بحجة “الاشتراطات الأمنية”.
حتى بعض الأصوات داخل مصر باتت أكثر جرأة في انتقاد هذه السياسات، معتبرة أن السيسي خاضع بالكامل للمصالح الأمنية الإسرائيلية والأجندة الأمريكية في المنطقة، وأن تصريحاته الرافضة للاحتلال ليست سوى واجهة لتخفيف الغضب الشعبي.

 

الضغط الشعبي ودور الإعلام

وسائل الإعلام التركية خصصت تغطية واسعة للمجازر الإسرائيلية والحصار المفروض على غزة، ووجهت انتقادات حادة للحكومات التي تتعاون أو تصمت أمام الاحتلال، ومن بينها مصر.
أما الإعلام المصري الرسمي فيتعامل مع الملف بحذر شديد، مع تجنب انتقاد مباشر لإسرائيل، والاكتفاء بنقل تصريحات رسمية عن جهود الوساطة.

رغم ذلك، انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي في مصر موجة غضب كبيرة، تطالب بفتح المعبر دون قيد أو شرط، وتتهم النظام بالمشاركة في الجريمة.

 

لماذا أصبح الموقف المصري أكثر حدة الآن؟

عدة عوامل دفعت القاهرة إلى رفع نبرة خطابها:

تصاعد الضغوط الشعبية مع انتشار صور المجاعة والقتل اليومي في غزة.
خشية من انفجار أمني في سيناء إذا تحقق سيناريو التهجير.
حسابات إقليمية، إذ تخشى مصر أن تترك تركيا أو دول أخرى المجال مفتوحًا لتلعب دور الوسيط الرئيسي.
لكن كل هذه العوامل لم تُترجم إلى تغيير ملموس في السياسات الميدانية، وهو ما يجعل الموقف المصري عرضة للتشكيك والنقد.

 

رسالة مزدوجة إلى إسرائيل

التقاء القاهرة وأنقرة على رفض الاحتلال يوجه رسالة سياسية قوية، لكنها رسالة غير متكافئة:

من أنقرة: ضغط إعلامي ودبلوماسي بلا علاقات أمنية ملزمة مع إسرائيل.
من القاهرة: خطاب رافض لكن سياسات ميدانية خاضعة للشروط الإسرائيلية.
النتيجة أن إسرائيل تدرك أن مصر، رغم اعتراضها العلني، لن تتجاوز الخطوط التي قد تضر بعلاقتها الأمنية والاقتصادية مع تل أبيب، خصوصًا في ظل عقود الغاز والتنسيق العسكري في سيناء.

التقارب الظرفي بين الموقفين المصري والتركي يعكس أن القضية الفلسطينية ما زالت قادرة على فرض توازنات جديدة في المنطقة، لكن مصداقية هذا الموقف تتوقف على السياسات الميدانية، لا على التصريحات الإعلامية.
فبينما تتحرك تركيا بلا قيود حدودية أو أمنية مع الاحتلال، تبقى مصر في موقع حساس، لكن حساسيتها تحولت — في نظر منتقديها — إلى خضوع كامل للمخطط الإسرائيلي ومشاركة في الحصار، وهو ما قد يترك أثرًا طويل المدى على صورتها أمام الشارع العربي والفلسطيني.