أعلنت الجهات الرسمية في مصر عن تراجع معدل التضخم الشهري بنسبة 0.5%، ما يعني استمرار انكماش الأسعار للشهر الثاني على التوالي.

هذه الأرقام الرسمية التي تصدر بشكل دوري تمثل مؤشرات اقتصادية مهمة يُفترض أن تعكس حالة السوق ومستوى المعيشة للمواطنين.

ومع ذلك، فإن الواقع الذي يعيشه أغلب المصريين بعيد تمامًا عن هذه الأرقام التي تبدو وكأنها تنسجم مع سيناريوهات اقتصادية مثالية، في حين أن الغالبية تشهد زيادة حادة في أسعار السلع والخدمات الأساسية التي تشكل الجزء الأكبر من ميزانياتهم الشهرية.

في هذا التقرير نستعرض خلفية التضخم في مصر خلال العامين الأخيرين، ونناقش أسباب التباين بين الأرقام الرسمية والواقع المعيشي، ونحلل تأثير ذلك على حياة المواطنين، مع تقديم رؤية أعمق حول العوامل التي تؤثر في معدلات التضخم وكيف يمكن تفسير هذا التراجع الظاهري في الأسعار.

 

ما هو التضخم ولماذا يتراجع؟

التضخم هو المعدل الذي ترتفع به أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد خلال فترة معينة، ويعتبر مؤشرًا رئيسيًا لصحة الاقتصاد، حيث يؤثر بشكل مباشر على القوة الشرائية للمواطنين.

انخفاض التضخم يعني تراجع معدل ارتفاع الأسعار أو حتى انكماشها، وهو ما يعبر عن استقرار نسبي في الأسعار أو انخفاضها.

وفقًا للإحصاءات الرسمية، سجل معدل التضخم الشهري في مصر انخفاضًا بنسبة 0.5% في الشهر الأخير، ليكون بذلك ثاني شهر على التوالي تشهد فيه الأسعار انكماشًا.

ويأتي هذا التراجع في سياق تحسن مؤشرات اقتصادية أخرى مثل استقرار سعر الصرف وارتفاع الإنتاج الزراعي والصناعي، التي يفترض أن تساهم في تخفيض تكاليف السلع الأساسية.

 

خلفية عن التضخم السنوي والشهري في مصر

على مدار السنوات الأخيرة، شهد الاقتصاد المصري تقلبات كبيرة في معدلات التضخم نتيجة عوامل متعددة منها رفع أسعار الطاقة والدعم، تقلبات سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، وتأثيرات الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية.

ففي عام 2022، وصل التضخم السنوي إلى معدلات مرتفعة تجاوزت 20% في بعض الأشهر، ما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع والخدمات.

في 2023، بدأت الحكومة تتخذ إجراءات عدة لاحتواء التضخم، منها تحسين إدارة الدعم، ضخ المزيد من العملة الأجنبية لدعم الاستيراد، وتنويع مصادر الغذاء المحلي. هذه السياسات أثمرت بتراجع التضخم تدريجيًا، ليصل في ديسمبر 2023 إلى معدل سنوي أقل من 10%، مع تراجع التضخم الشهري لأشهر متتالية.

 

التضخم في الواقع: لماذا تختلف الأرقام عن معاناة المواطنين؟

رغم الأرقام الرسمية التي تشير إلى تراجع التضخم، إلا أن الواقع على الأرض مختلف تمامًا، حيث يعاني المواطنون من ارتفاع الأسعار في معظم السلع الأساسية مثل الخبز، اللحوم، الخضروات، والوقود. هناك عدة أسباب لهذه الفجوة:

سلة السلع المستخدمة في حساب التضخم: تعتمد الحكومة على سلة محددة من السلع والخدمات لاحتساب معدل التضخم، لكن هذه السلة قد لا تعكس السلوك الاستهلاكي الحقيقي لكثير من المواطنين، خصوصًا الفئات الأكثر فقرًا التي تصرف الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء والطاقة.
التضخم النوعي مقابل التضخم الكلي: قد تكون هناك سلع أساسية تشهد ارتفاعًا كبيرًا، في حين تنخفض أسعار سلع أخرى أقل أهمية، ما يؤدي إلى تراجع المعدل الكلي لكنه لا يعبر عن الأعباء الحقيقية على المواطنين.
تأخر تحديث السلة التموينية: تغييرات سريعة في الأسعار قد لا تنعكس في بيانات التضخم إلا بعد فترة زمنية، مما يجعل التقارير الرسمية متأخرة عن واقع الأسواق.
ضغوط السوق غير الرسمية: ارتفاع الأسعار في الأسواق غير المنظمة، مثل الأسواق الشعبية والأسواق السوداء، والتي يتجه إليها كثير من المواطنين، قد لا تظهر بوضوح في البيانات الرسمية.

 

تأثير التضخم على حياة المواطنين

ارتفاع أسعار السلع الأساسية يزيد من معاناة الأسر المصرية، خصوصًا الطبقات الوسطى والفقيرة التي لا تملك مصادر دخل إضافية. مع انكماش القوة الشرائية، تضطر الكثير من الأسر إلى تقليل استهلاكها من الغذاء والخدمات الصحية والتعليمية، مما يؤثر سلبًا على جودة الحياة.

التضخم يزيد من معدلات الفقر ويعمق فجوة عدم المساواة في المجتمع، ويؤثر أيضًا على سوق العمل حيث تزداد المطالب بزيادة الأجور لمواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة، وهو ما يشكل ضغطًا إضافيًا على الاقتصاد.

 

التحديات الاقتصادية وراء التضخم

عدة عوامل داخلية وخارجية تؤثر على معدلات التضخم في مصر، منها:

تقلبات سعر صرف الجنيه: تؤثر مباشرة على تكلفة الاستيراد والسلع المستوردة.
ارتفاع أسعار الطاقة والوقود عالميًا: يؤثر على تكلفة النقل والإنتاج.
الأزمات العالمية: مثل الأزمات الصحية والسياسية تؤدي إلى اضطرابات في سلاسل الإمداد.
السياسات الحكومية: تغيير الدعم ورفع الأسعار التدريجي يهدف إلى ضبط الموازنة لكنه يضغط على المواطنين.
وفي النهاية فإن تراجع التضخم بنسبة 0.5% خلال الشهرين الأخيرين وفقًا للأرقام الرسمية، هو مؤشر إيجابي على الورق لكنه لا يعكس تمامًا معاناة المواطن المصري اليومية من ارتفاع الأسعار والتكاليف المعيشية. هناك فجوة واضحة بين المؤشرات الاقتصادية الرسمية والواقع الاقتصادي للمواطنين، مما يبرز أهمية مراجعة منهجية حساب التضخم، وتبني سياسات أكثر شمولية لحماية المستهلك، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لكافة فئات المجتمع.

تحقيق استقرار حقيقي للأسعار في مصر يتطلب جهودًا متكاملة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، مع شفافية ومتابعة مستمرة للمؤشرات الاقتصادية، لضمان أن تؤدي السياسات إلى تحسين ملموس في حياة المواطنين وليس فقط إلى أرقام على الورق.