تشهد مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، منذ أيام، واحدة من أعنف جولات القتال بين الجيش السوداني وحلفائه من جهة، وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، في مشهد دموي جديد يضاف إلى سجل الحرب المشتعلة في السودان منذ أكثر من عام.
ولليوم الخامس على التوالي، تتواصل الاشتباكات داخل أحياء المدينة وحول أطرافها، مخلفةً مئات القتلى والجرحى ونزوح آلاف المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط نيران حرب لا تبقي ولا تذر.
وبينما تواصل قوات الدعم السريع ارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين من قتل ونهب وحرق، يحاول الجيش السوداني استعادة زمام المبادرة عسكريًا، في مؤشر على أن الفاشر قد تكون نقطة التحول الكبرى في الصراع المستعر.
خلفية الصراع
منذ اندلاع الحرب بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في أبريل 2023، تحولت دارفور إلى واحدة من أكثر الجبهات اشتعالًا وتعقيدًا.
وبحكم تركيبتها القبلية وموقعها الجغرافي الحساس، كانت شمال دارفور ساحة أساسية لتوسع الدعم السريع، الذي سيطر في الأشهر الماضية على مساحات واسعة من الإقليم، مرتكبًا انتهاكات موثقة ضد المدنيين.
معارك الفاشر الأخيرة
منذ السبت الماضي، انفجرت الأوضاع في الفاشر بشكل غير مسبوق، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة في عدة محاور رئيسية بالمدينة.
الجيش السوداني مدعومًا بقوات محلية من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا (مثل حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي)، خاض مواجهات مباشرة مع قوات الدعم السريع.
المعارك اتسمت باستخدام الأسلحة الثقيلة والمدفعية، وسط سقوط قذائف عشوائية على الأحياء السكنية.
ووفقًا لشهادات من داخل المدينة، فإن عشرات الجثث تنتشر في الشوارع، في حين انقطعت الكهرباء والمياه عن معظم الأحياء، مع انهيار الخدمات الأساسية بالكامل.
انتهاكات قوات الدعم السريع
لم تختلف صورة الفاشر عن المدن الأخرى التي دخلتها قوات الدعم السريع.
تقارير محلية وإنسانية أشارت إلى:
- عمليات نهب وسرقة واسعة طالت الأسواق والمحال التجارية.
- استهداف المدنيين بشكل مباشر، حيث جرى إعدام بعض السكان ميدانيًا بتهمة دعم الجيش.
- حرق منازل في بعض الأحياء الجنوبية للمدينة.
- انتهاكات بحق النساء، بينها حالات اغتصاب موثقة نقلتها منظمات حقوقية.
هذه الممارسات أعادت إلى الأذهان ذكريات الإبادة الجماعية التي شهدها إقليم دارفور في مطلع الألفية، وأثارت قلقًا واسعًا من أن الفاشر قد تكون أمام موجة تطهير عرقي جديدة إذا ما استمرت الأوضاع على هذا النحو.
الجيش يحاول قلب المعادلة
رغم قوة الدعم السريع وانتشاره في أحياء متعددة، تشير تقارير ميدانية إلى أن الجيش السوداني بدأ في تحقيق تقدم تدريجي بمساندة القوات الحليفة.
في الأيام الأخيرة، تمكن الجيش من تأمين أجزاء من وسط المدينة، بما في ذلك بعض المؤسسات الحكومية.
جرى طرد الدعم السريع من مواقع رئيسية على المدخل الشرقي للفاشر.
تحركات الجيش اتسمت ببطء لكنها محسوبة، نظرًا لحساسية الأوضاع المدنية ورغبته في استعادة السيطرة دون إحداث دمار شامل.
موقف المدنيين
المدنيون هم الضحية الأكبر في هذه المعارك. عشرات الآلاف نزحوا نحو مناطق أكثر أمانًا، بينما احتمى آخرون في المدارس والمساجد.
أصوات عديدة من داخل الفاشر طالبت بضرورة تدخل المجتمع الدولي بشكل عاجل، خصوصًا بعد أنباء عن حصار كامل للمدينة من قبل قوات الدعم السريع، ما يهدد بوقوع كارثة إنسانية كبرى بسبب نقص الغذاء والدواء.
البعد السياسي ودور دحلان
المعارك في الفاشر ليست مجرد صراع محلي، بل تحمل أبعادًا سياسية وإقليمية.
تقارير أشارت إلى أن الدعم السريع تلقى دعمًا خارجيًا من أطراف إقليمية، في حين يسعى الجيش إلى توحيد الحركات المسلحة تحت قيادته لفرض السيطرة.
وهناك تساؤلات متزايدة عن دور وسطاء إقليميين مثل الإمارات عبر قنواتها المختلفة، إضافة إلى مخاوف من محاولات بعض الشخصيات مثل محمد دحلان استخدام نفوذه في الإقليم لتمرير أجندات مرتبطة بالصراع في غزة وليبيا.
قرب حسم المعركة؟
مع تصاعد المواجهات، يبدو أن الفاشر على أعتاب معركة حاسمة.
فسيطرة الجيش على المدينة ستشكل نقطة تحول استراتيجية كبيرة، كونها آخر عاصمة ولائية كبرى لا تزال تشهد نفوذًا واسعًا للدعم السريع.
أما إذا تمكنت قوات حميدتي من الصمود أو التوسع داخل المدينة، فإن ذلك سيعزز موقفها التفاوضي مستقبلًا ويطيل أمد الصراع.
المجتمع الدولي والأمم المتحدة
الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي أعربا عن قلق بالغ إزاء التطورات في الفاشر، محذرين من أن استمرار المعارك قد يؤدي إلى انفجار إنساني غير مسبوق.
لكن الملاحظ أن المواقف الدولية ما تزال في إطار "الإدانة" و"الدعوة إلى ضبط النفس"، دون تدخل عملي حقيقي على الأرض.
وأخيرا فمعارك الفاشر ليست مجرد جولة جديدة في حرب السودان، بل قد تكون المعركة الفاصلة التي تحدد مستقبل دارفور وربما مسار الحرب كلها.
الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في المدينة أكدت من جديد أنها تمثل خطرًا وجوديًا على المدنيين وعلى استقرار السودان.
وفي المقابل، فإن محاولات الجيش السوداني استعادة السيطرة قد تمنح الأمل في استعادة شيء من النظام، لكن ذلك لن يتحقق دون ثمن باهظ.
وفيما يقف أهل الفاشر بين مطرقة القصف وسندان الحصار، يتفرج العالم بصمت.
وإن لم يتحرك المجتمع الدولي بجدية، فقد تتحول الفاشر إلى سربرنيتسا جديدة في قلب إفريقيا، في حين يسعى الجيش بكل قوة لحسم الميدان لصالحه وإنقاذ ما تبقى من هيبة الدولة.