شهدت مدينة سانت كاترين بجنوب سيناء خلال موجة التقلبات الجوية الأخيرة واحدة من أعنف السيول التي اجتاحت المنطقة خلال السنوات الماضية، حيث تدفقت كميات ضخمة من المياه من المرتفعات إلى الوديان والطرق، مسببة خسائر فادحة للسكان والممتلكات.
ورغم أن مثل هذه الظواهر الطبيعية كان يمكن أن تتحول إلى فرصة ثمينة لتخزين المياه والاستفادة منها في بلد يعاني من أزمة عطش وفقر مائي خانق، إلا أن غياب التخطيط الاستراتيجي، وانشغال الدولة بالشعارات الإعلامية بدلًا من الحلول العملية، جعل من السيول كارثة جديدة تضاف إلى سجل طويل من الإهمال الرسمي.
المشهد في سانت كاترين لم يكن مجرد تقلب جوي عابر، بل جرس إنذار جديد يكشف كيف تعامل الدولة الأزمات الطبيعية بنفس العقلية القديمة: تصريحات للاستهلاك الإعلامي، إجراءات متأخرة، وانعدام لرؤية مستقبلية حقيقية تجعل من كل نعمة طبيعية نقمة على المواطنين.
تصريحات للتباهي.. وأرقام بلا قيمة
في خضم الأضرار التي لحقت بالمدينة وسكانها، خرجت وزارة الموارد المائية والري لتعلن أنها تمكنت من "حصاد نحو 300 ألف متر مكعب من المياه" جراء السيول الأخيرة.
بدا التصريح وكأنه محاولة للتباهي بالإنجاز، لكن الحقيقة على الأرض تقول عكس ذلك.
فما فائدة الحديث عن مئات الآلاف من الأمتار المكعبة إذا كانت هذه المياه قد ذهبت هدرًا في مجاري السيول، دون أن توجد خطة حقيقية لاستغلالها في الشرب أو الزراعة أو حتى تعزيز المخزون الجوفي؟
المفارقة أن هذه التصريحات تتكرر بعد كل موجة سيول، وكأن الدولة تكتفي بذكر الأرقام وكأنها منجز بحد ذاته، بينما المواطن البسيط في سيناء لا يرى إلا خسائر في الطرق، وانهيار بيوت متواضعة، وضياع محاصيل كان يعتمد عليها لإعالة أسرته.
التباهي بحصاد المياه بلا برامج للاستفادة منها هو في الواقع تأكيد على الفشل، لا العكس.
الأضرار المباشرة.. الأهالي يدفعون الثمن
لم تمر السيول دون أن تترك وراءها أثرًا مدمرًا. فقد دمرت السيول طرقًا رئيسية وأدت إلى انقطاع بعضها عن حركة المرور لساعات طويلة، ما عزل بعض القرى والوديان عن باقي المدينة.
كما تضررت منازل كثيرة بُنيت بمواد بسيطة وأسقف ضعيفة لم تتحمل اندفاع المياه، مما أجبر بعض العائلات على النزوح المؤقت بحثًا عن مأوى آمن.
ولم تتوقف الكارثة عند ذلك، فقد غمرت السيول مساحات زراعية صغيرة يعتمد عليها السكان المحليون كمصدر رزق أساسي، فأتلفت أشجار الزيتون والنخيل والمحاصيل الموسمية.
في هذه الأثناء، لم يجد الأهالي أي دعم حقيقي من السلطات سوى بعض التصريحات الفضفاضة عن "السيطرة على الموقف"، في حين أن ما يحتاجونه فعلًا هو تعويضات عاجلة، وحماية مستقبلية تضمن ألا تتكرر المأساة.
غياب التخطيط الاستراتيجي.. وفقر مائي يزداد
إن ما حدث في سانت كاترين لا يمكن فصله عن الأزمة الأوسع التي تعيشها مصر، وهي أزمة الفقر المائي.
فقد تراجعت حصة الفرد من مياه النيل إلى أقل من 550 مترًا مكعبًا سنويًا، وهو أقل كثيرًا من خط الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب.
وبينما تتحدث الدولة صباح مساء عن خطورة الوضع المائي، فإنها لم تستطع حتى الآن بناء خطة متكاملة للاستفادة من مياه الأمطار والسيول.
يمكن لمشروعات صغيرة مثل بناء السدود الجانبية والخزانات الأرضية أن تحول مياه السيول في سيناء وسلاسل البحر الأحمر إلى ثروة مائية حقيقية، تساهم في تخزين المياه الجوفية أو في ري مساحات صحراوية جديدة.
لكن غياب الإرادة السياسية، وانشغال النظام بمشاريع استعراضية مثل الأبراج الشاهقة والعاصمة الإدارية، جعل من الملف المائي مجرد أداة دعائية بدلًا من أن يكون أولوية وطنية.
مفارقة قاسية.. بين العطش والإهدار
المفارقة الكبرى تكمن في أن مصر، التي تخوض مفاوضات شاقة منذ سنوات بسبب سد النهضة الإثيوبي وتخشى من نقص حصتها المائية، تترك السيول تهدر بلا استفادة.
فبدلًا من أن تتحول هذه الظاهرة الطبيعية إلى طوق نجاة، تتحول إلى كارثة تضر بالمواطنين وتُهدر فرصًا استراتيجية. إنها صورة تعكس بدقة غياب الرؤية لدى النظام الحاكم، الذي يفضل سياسة رد الفعل بدلًا من المبادرة والتخطيط.
المواطن الخاسر الأكبر
في النهاية، المواطن المصري هو الذي يدفع ثمن هذا الفشل المزمن.
فالأهالي في سانت كاترين فقدوا بيوتهم وأراضيهم، بينما سكان المدن الكبرى يعيشون تحت وطأة فواتير المياه المتصاعدة، وخطر شح المياه الذي يلوح في الأفق.
وبينما يزداد الحديث الرسمي عن "التحديات المائية"، لا يجد المواطن سوى مزيد من المعاناة اليومية، ووعود حكومية لا تتحقق على أرض الواقع.
إن سيول سانت كاترين لم تكن مجرد حدث طبيعي عابر، بل مرآة عاكسة لأزمة أكبر: غياب إدارة رشيدة للموارد الطبيعية في مصر.
فالحكومة التي تدّعي أنها تحمي الأمن المائي وتواجه أخطر أزمة عطش في تاريخ البلاد، هي نفسها التي عجزت عن استغلال مئات الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه المتدفقة من السماء.
ما لم يكن هناك تحول جذري في سياسات الدولة، ووضع المياه على رأس الأولويات الوطنية بعيدًا عن الشعارات الفارغة، فإن مصر ستظل أسيرة حلقة مفرغة من الإهدار، الأزمات، ومعاناة المواطنين.