في واقعة ليست جديدة بل تكررت كثيرا عاكسة مدى انحدار النظام الانقلابي في التعامل مع الأصوات المعارضة، أعلن الناشط واليوتيوبر المقيم بالخارج عبدالله الشريف عن اعتقال شقيقه الثالث، واقتحام منزل والدته وتدمير محتوياته بالكامل، فضلًا عن تغريب إخوته المعتقلين السابقين إلى سجون بعيدة لتصعيب زيارتهم على العائلة.
الشريف كتب في تدوينة مؤثرة: "لا نرجو شيئًا من أحد ولا نطلب عونًا، فالأمر كله بيد قاصم ظهور الجبارين وهو المستعان وعليه التكلان".
https://x.com/AbdullahElshrif/status/1956289085879865455
هذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، بل تأتي في سياق متكرر من سياسة ممنهجة تنتهجها السلطات المصرية تحت حكم عبد الفتاح السيسي، حيث لم يعد استهداف الناشطين والمعارضين بالخارج كافيًا، بل امتد التنكيل إلى عائلاتهم في الداخل، في محاولة بائسة لإسكاتهم عبر الضغط على أقرب الناس إليهم.
سياسة "العقاب العائلي"
منذ سنوات الانقلاب العسكري في 2013، بدأ النظام المصري في استخدام أسلوب العقاب الجماعي ضد أهالي الناشطين والصحفيين المقيمين بالخارج.
الاعتقالات العشوائية، اقتحام المنازل، مصادرة الممتلكات، وتلفيق القضايا باتت مشاهد مألوفة. عبدالله الشريف ليس استثناءً، فقد سبق أن تعرضت عائلات معارضين آخرين، مثل معتز مطر ومحمد ناصر ووائل غنيم، لانتهاكات مماثلة، حيث تم توقيف أقاربهم ومضايقتهم بشكل مباشر.
هذه الممارسات تعكس غياب دولة القانون، وتحويل الأجهزة الأمنية إلى أدوات انتقام سياسي، بدلًا من أن تكون مؤسسات تحمي المواطنين وتطبق العدالة.
أمثلة مشابهة
لا يقتصر الأمر على الإعلاميين البارزين، بل يشمل طيفًا واسعًا من المعارضين.
في عام 2019، اعتُقل شقيق الناشط محمد علي بعد نشره مقاطع فيديو فضحت فساد السيسي والمؤسسة العسكرية.
وفي 2020، تعرضت أسرة الصحفي بلال فضل لمضايقات متكررة داخل مصر رغم إقامته بالخارج.
كما طالت الاعتقالات أقارب الباحث محمد عبدالمجيد الذي كشف ممارسات قمعية من داخل المؤسسات الرسمية.
كل هذه الأمثلة تؤكد أن ما يجري ليس تصرفات فردية أو تجاوزات، بل سياسة متعمدة تتبعها السلطة كوسيلة للضغط النفسي والابتزاز السياسي.
المنظمات الحقوقية توثق سياسة "العقاب العائلي"
لم تمر هذه الانتهاكات دون رصد من المنظمات الحقوقية الدولية، إذ أصدرت عدة جهات تقارير تدين بوضوح سياسة استهداف أهالي المعارضين:
- منظمة العفو الدولية (Amnesty International) أصدرت في سبتمبر 2019 تقريرًا بعنوان "عائلات في مرمى القمع"، كشفت فيه عن اعتقال أقارب ناشطين وصحفيين بالخارج بهدف الضغط عليهم، وأشارت إلى أن السلطات المصرية "تستخدم العائلات كورقة مساومة لوقف الأصوات المنتقدة، في انتهاك فج للقانون الدولي".
- هيومن رايتس ووتش (HRW) بدورها وثّقت في عدة بيانات منذ 2017 حالات اعتقال ومضايقات استهدفت أقارب معارضين بالخارج، من بينهم أسر الصحفيين المقيمين في تركيا ولندن.
وأكدت المنظمة أن هذه الممارسات ترقى إلى "عقاب جماعي محظور دوليًا"، مشددة على أن "استهداف الأقارب جريمة لا تقل فداحة عن استهداف المعارض نفسه". - مقررو الأمم المتحدة الخاصون المعنيون بحرية الرأي والتجمع السلمي أرسلوا مذكرات للحكومة المصرية بشأن انتهاكات مشابهة، لافتين إلى أن التنكيل بالأهالي يتناقض مع التزامات مصر الدولية في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
ورغم هذه الإدانات، ظل الموقف الدولي في مجمله متسمًا بالصمت، خاصة من الحكومات الغربية التي تغلّب مصالحها السياسية والاقتصادية مع النظام المصري على ملف حقوق الإنسان.
انعكاسات اجتماعية وسياسية
سياسة العقاب العائلي لم تنجح فقط في تشويه صورة الدولة المصرية أمام العالم، بل تركت آثارًا عميقة داخل المجتمع.
الأسر المستهدفة باتت تعيش في حالة خوف دائم، وهو ما أدى إلى تفكك نسيجها الاجتماعي وانهيار أوضاعها المعيشية.
كذلك، فإن استهداف الأبرياء يزيد من مشاعر الكراهية تجاه النظام، ويخلق حالة من الغضب الشعبي المكبوت.
سياسيًا، لم تؤدِ هذه السياسات إلى إخماد الأصوات المعارضة في الخارج، بل زادت من حدة انتقاداتهم، حيث أصبحوا أكثر تصميمًا على فضح ممارسات النظام بعد أن أصبح الثمن غاليًا يمس ذويهم وأهاليهم.
فشل النظام في إسكات المعارضة
رغم القمع والبطش، فشل النظام المصري في تحقيق هدفه الأساسي المتمثل في إسكات المعارضين.
عبدالله الشريف وغيره من الناشطين بالخارج ما زالوا يتمتعون بجمهور واسع يتابعهم ويثق في ما يقدمونه من محتوى ناقد وموثق.
بل إن الانتهاكات ضد أسرهم تزيد من مصداقيتهم وتجعل الرأي العام يتعاطف معهم أكثر.
وهكذا، يثبت السيسي ونظامه أن سياسات التخويف والضغط لن تؤدي إلا إلى نتائج عكسية، وأنها مجرد محاولة يائسة لتغطية عجزه عن إدارة شؤون الدولة بالعدل والشفافية.
وختاما فإن واقعة اعتقال شقيق عبدالله الشريف وتدمير منزل والدته ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل طويل من الانتهاكات التي ينتهجها نظام السيسي ضد أهالي المعارضين بالخارج.
هذه السياسة التي وثّقتها منظمات دولية مرموقة لا تُظهر إلا ضعف النظام وعجزه عن مواجهة النقد بالحجة والدليل.
كما أن ما يجري اليوم هو تكريس لنهج القمع والانتقام، لكن التاريخ أثبت أن الأنظمة التي تحكم بالخوف والقمع تسقط مهما طال الزمن، بينما يبقى صوت الحرية أقوى من كل سجون الطغاة.