تعيش مهنة الطب في مصر واحدة من أخطر أزماتها التاريخية، بعدما تدنى الحد الأدنى للقبول بكليات الطب إلى 74%، نتيجة التوسع غير المسبوق في إنشاء كليات جديدة، خاصة بالجامعات الأهلية والخاصة.
هذه السياسات، التي يُسوّق لها باعتبارها محاولة لسد عجز الأطباء ومواجهة موجة الهجرة للخارج، يراها خبراء وأطباء كارثة تعليمية وصحية تهدد سمعة الطب المصري محليًا ودوليًا.
توسع غير مدروس: من 16 كلية إلى العشرات
يبلغ عدد كليات الطب الحكومية في مصر 16 كلية، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت طفرة في إنشاء كليات أهلية وخاصة، من بينها جامعات الملك سلمان، شرق بورسعيد، سيناء، والإسماعيلية الجديدة.
هذه التوسعات رفعت أعداد المقبولين من نحو 15 ألفًا إلى قرابة 29 ألف طالب هذا العام فقط، ما أدى إلى انخفاض غير مسبوق في الحد الأدنى للقبول، وصل إلى 74% في بعض الجامعات الأهلية.
ويرى الدكتور محمد بسيوني، عميد كلية الطب الأسبق، أن ما يحدث "كارثة تعليمية وصحية" بكل المقاييس، إذ لم يعد القبول يعتمد على الكفاءة والقدرات العلمية بقدر ما أصبح رهينًا بالقدرة المالية على دفع المصروفات المرتفعة.
انحدار المعايير وتأثيره على سمعة المهنة
الدكتور أبو بكر القاضي، أمين عام نقابة الأطباء، يتساءل عن جدوى خفض الحد الأدنى، مجيبًا: "بالطبع لا".
ويؤكد أن نسبة كبيرة من الطلاب المقبولين بهذه الشروط سيرسبون في السنوات الأولى، ما يعكس خللًا في معايير الاختيار.
ويحذر القاضي من أن سمعة الطب المصري، التي كانت رائدة في المنطقة والعالم، أصبحت مهددة، خاصة في دول الخليج التي بدأت تشترط خريجي جامعات حكومية محددة فقط للعمل بها.
فجوة كبيرة بين الأعداد والاحتياجات
رغم تضاعف أعداد المقبولين، لا تزال أزمة نقص الأطباء قائمة.
نقابة الأطباء تضم نحو 300 ألف طبيب مقيدين بجداولها، لكن من يعملون فعليًا داخل مصر أقل من المعدل العالمي المطلوب (23 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن)، إذ لا يتجاوز المعدل الحالي 9.8 أطباء لكل 10 آلاف مواطن.
هذه الفجوة، بدلًا من أن تُحل، تتفاقم مع استمرار هجرة الكفاءات للخارج نتيجة تردي الأوضاع المادية والمهنية.
تحذيرات النقابة من "كليات وهمية"
سبق أن أصدرت نقابة الأطباء بيانات تحذر أولياء الأمور من الانخداع بما وصفتها "كليات وهمية" داخل مصر وخارجها، لا توفر الحد الأدنى من التأهيل المطلوب.
وفي بيان مطلع العام الماضي، شدد الدكتور أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء، على أن قبول طلاب حصلوا على نسب 50% فقط في بعض الكليات الأجنبية "كارثة على النظام الصحي"، لأنها تؤدي إلى تخريج أطباء بشهادات ورقية لا تعكس الكفاءة أو الجدارة.
كما اقترحت النقابة تحديد الحد الأدنى في الجامعات الخاصة بفارق 5% فقط عن الحكومية، إلا أن هذا المقترح لم يجد سبيلًا للتنفيذ، ما فتح الباب أمام فوضى القبول.
ومع توسع غير مدروس، وتدني معايير القبول، وتحذيرات متكررة من النقابة، يظل مستقبل الطب في مصر على المحك.
وإذا استمرت السياسات الحالية دون مراجعة جذرية، فإن النتيجة لن تكون فقط فقدان سمعة الطب المصري في الخارج، بل أيضًا انهيار مستوى الخدمة الصحية المقدمة للمواطنين في الداخل.
الأزمة إذن ليست أزمة تعليم فقط، بل قضية أمن صحي قومي تحتاج إلى تدخل عاجل.