محمد فخري
كاتب وصحفي مصري
تتسلل الظواهر الاجتماعية الجديدة وتتغلغل حتى تطفو على سطح أحداث المجتمع، وتصبح بمرور الوقت جزءًا من الواقع اليومي المُعاش.
ومن تلك الظواهر التي أدت إلى احتقان طبقي شبه مكتوم خلال العقد الأخير؛ ظاهرة “الأثرياء الجدد”، التي اكتملت ملامحها، وتعاظم خطرها الاجتماعي في مصر خلال السنوات الأخيرة.
وتتجلى الظاهرة في كثير من تفاصيل وأحداث الحياة داخل مصر، فالتناقض الاجتماعي الصارخ بات واضحًا بين الأغلبية التي تتمثل في عشرات الملايين من المصريين وبين تلك الفئة التي ظهرت كأمر شاذ في بداية الأمر، ثم سرعان ما جذبت أشباهها وفرضت نفسها كأمر واقع.
وللتوضيح يتمثل الأمر مثلًا في دلالة العُرف الاجتماعي السائد في الأوساط الشبابية والاجتماعية وعلى مواقع التواصل الذي يقسم المصريين: إلى سكان مصر، وسكان “Egypt” ورغم أن الكلمتين بالعربية والإنجليزية لنفس البلد، إلا أن هذا التصنيف بات له معنى اجتماعيًا واقتصاديًا غائرًا.
كما يتمثل في التصنيف الذي قسم المصطافين بين رواد معظم شواطئ مصر، ورواد ما عُرف بالساحل “الشرير”، وهو نفس التصنيف الذي قسم القاهريين إلى سكان القاهرة القديمة بأحيائها المتفاوتة، وسكان “الكمبوند” الفاخر حيث الإقامة داخل مجمعات سكنية مغلقة خلف الأسوار والأسياج.
والمواطن المصري أصبح يعي الأمر منذ صحوه وحتى نومه، فهو يصطدم به في السكن والانتقالات والتعليم والصحة وفي مواقع التواصل والفضائيات حيث مقاطع التباهي بالإنفاق المسرف وشراء السلع والخدمات التي تميز الطبقة الثرية، وحيث إعلانات الشقق “المليونية” والفيلات وشاليهات البحر والسيارات ذات الأسعار الخرافية بالنسبة للمواطن.
ماذا حدث لأغنياء المصريين؟
ومصطلح “الأثرياء الجدد” لا يُقصد به محدثو النعمة، أو حديثو الثراء، وإن كانت تلك الصفة هي واحدة من صفات كثيرة مكونة للظاهرة محل الحديث.
ويبقى التساؤل المطروح؛ ماذا حدث لأغنياء المصريين؟! وكيف برز على سطح الأعمال، والأحداث العامة خلال السنوات الأخيرة فجأة وبدون مقدمات منطقية؛ شخصيات بالغة الثراء، اكتسبوا ثروتهم خلال عدة سنوات، ليس عن طريق الميراث، أو العمل الممتد لعقود طويلة، كما في حال الأثرياء القدامى الذين ورثوا ثروتهم أو صنعوها عبر سنوات طوال.
وعلى قدر ما يميل “الجدد” هؤلاء إلى التفاخر بالاستهلاك والتباهي بالثروة الجديدة بشكل مبتذل ومبالغ فيه، على قدر ما يفتقر معظمهم إلى الذوق الرفيع، كما يفتقرون أيضًا إلى منظومة القيم أو الخبرة الثقافية التي تميز الأثرياء العصاميين، أو حتى الوارثين.
وربما السبب في ذلك أنهم لم يجدوا وقتًا لاكتساب القيم والخبرات الاجتماعية، بنفس السرعة التي اكتسبوا بها المال، حيث يميز معظم الأثرياء الجدد في مصر الآن الصعود السريع لسلم الحراك الاجتماعي من الطبقات الدنيا أو المتوسطة إلى الثراء الفاحش.
والواقع يشير إلى أننا أمام تركيبة جديدة للمجتمع المصري تختلف عن تركيبة الطبقات الثلاث وتنقسم الآن إلى طبقتين بينهما هوة شاسعة وفوارق كبيرة في النظرة إلى الذات وإلى الآخر (سكان مصر) وفي القيم والعادات والتقاليد والهموم وأنماط الاستهلاك والدخل والممارسات الاجتماعية، ولغة الخطاب المتداولة، وأنماط العلاقات غير المألوفة، والعلاقة بمواقع التواصل الاجتماعي.
وتفسيرًا لذلك، وعوضًا عن قراءة أبحاث أكاديمية طويلة (كان من المفترض أن تُكتب)، يكفي أن تقرأ ما كتبه الممثل الراحل زكي فطين عبدالوهاب، (وهي عبارات معبرة وعميقة للغاية رغم بساطتها)، فقد خرج الممثل القدير عن صمته منذ بضع سنوات وكتب متسائلًا عن تلك الظاهرة عبر حسابه على فيسبوك: (أنا عندي 64 سنة، ومن جيل الستينيات، وحتى أكون واضحًا؛ أنا لا أعرف ولا أفهم ما هو سبب “الفشخرة” والتعالي الذي يعيش فيه رواد الساحل الشمالي والجونة في هذه الأيام، ورغم انتمائي لعائلة غنية ومشهورة والثراء الذي كنت أعيش فيه مع والدتي القديرة الراحلة ليلى مراد، وأبي المخرج القدير فطين عبد الوهاب، إلا أنني كنت أستقل المواصلات العامة، وكانت علاقتي بابن السائق والطباخ علاقة صداقة، ولقد أحضرت أمي سيارة 28 لشقيقي عندما التحق بالجامعة وكانت تستطيع أن تشتري مرسيدس.. والمصيف كان بين 3 أماكن: المعمورة والمنتزه وبيانكي العجمي، والخدم كانوا يسبحون معنا بعد فترة الغداء في نفس الشاطئ، لقد تربينا على ذلك، وقد كنت أركب “الميكروباص” من جاردن سيتي لنادي الجزيرة، ونأكل الكشري في باب اللوق وكان في الأمر متعة كبيرة لأننا كنا نحتك بالطبقة الحقيقية للشعب، ولم أر يومًا هذا البذخ والتعالي و”الآلاطة” التي أراها اليوم)
عاصمة الأثرياء والكادحين
لا شك أن وجود فوارق اقتصادية واجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد هو أمر طبيعي، ولكن اتساع الهوة إلى هذا الحجم ليس طبيعيًا بالمرة، والدليل على ذلك ما ورد في مجموعة التقارير السنوية لثروات الأمم الصادرة من بنك “كريدي سويس” طوال العشر سنوات الماضية؛ فقد حصلت مصر على المركز الثامن في أسوأ دول العالم توزيعًا للثروة، حيث أشار التقرير إلى أن 1% من المصريين يسيطر على 48.5% من دخلها، وأن مصر ضمن أكثر 3 بلاد زاد فيها التفاوت في توزيع الدخل بسرعة.
وطبقًا لبيانات عام 2021م تحتل مصر المركز الثاني عربيًا والثاني والثلاثين عالميًا من حيث الثروة، حيث بلغت ثروتها الصافية 1.4 تريليون دولار.
وفي الإطار نفسه كشف تقرير الثروة الإفريقية لعام 2024، الذي نشرته شركة استشارات الثروات الدولية «هينلي آند بارتنرز»؛ أن مصر الأولى إفريقيًا في عدد المليارديرات بالدولار حيث أن بها 7 مليارديرات إضافة إلى 15.600 مليونير، و52 “مالتي مليونير”، وتمثل أسواق الثروة في إفريقيا “الخمسة الكبار” جنوب أفريقيا، مصر، نيجيريا، كينيا، والمغرب.
وبحسب “تقرير الثروة الإفريقية لعام 2025م، تحتل مصر المرتبة الثانية في القارة الأفريقية من حيث عدد المليونيرات، حيث يبلغ عددهم حوالي 14,800 مليونيرًا. تُعتبر مصر عاصمة الأثرياء في شمال إفريقيا، وتضم القاهرة غالبية هذه الثروات.
وما يزيد من أهمية دلالات تلك التقارير، هو وجود تقارير محلية ودولية أخرى تخص مجمل الشعب وتشير إلى تزايد مستويات الفقر والبطالة، وتدني مستوى الدخل.
وخلاصة القول لا يمكن غض الطرف عن تلك الظاهرة الاجتماعية المؤثرة، فالعقلاء فقط يعلمون أن نتائج تلك الظاهرة أكبر بكثير من مجرد تباهي الأثرياء الجدد في ظل معاناة الكادحين، خاصة مع اتساع فجوة التناقض الاجتماعي وتزايد مساحات الانقسام المجتمعي.
لذلك لا يفضل الاستسلام لوجود تلك الظاهرة واعتبارها قدرًا محتومًا لا يمكن الفكاك منه،
وإلا فما دور الدولة والتي من واجبها، إخضاع الأمر للدراسة الاجتماعية والاقتصادية المستفيضة، واتخاذ الإجراءات الرسمية
(التشريعية والتنفيذية) لمعالجة آثار تلك الظاهرة الضارة بالنسيج المجتمعي، والتخفيف من حدتها، والقضاء عليها إذا أمكن.