في وقتٍ تتصاعد فيه الشكوك حول نزاهة المؤسسات المصرية الرسمية، فجّر تسريب صوتي بثّته قناة مكملين أزمة جديدة داخل وزارة الخارجية، حيث أظهر تسجيل منسوب لوزير الخارجية بدر عبد العاطي تورطه في ممارسات فساد خلال حملة دعم ترشيح الوزير الأسبق خالد عناني لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو.

التسريب فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات حول مدى شرعية فوز عناني، وما إذا كان هذا الإنجاز الدبلوماسي المعلن نتاج كفاءة حقيقية أم نتيجة شبكة من المصالح والرشاوى السياسية المغلفة بغطاء “التمثيل الحضاري”.
 

تسريب يفضح دبلوماسية “الهدايا والكنوز”
التسريب الصوتي الذي بثته القناة المعارضة كشف أن الوزير بدر عبد العاطي تحدث صراحة عن توزيع هدايا وتحف فرعونية مقلدة وسجاد فاخر على ممثلي الدول المشاركة في التصويت داخل المجلس التنفيذي لليونسكو، في محاولة واضحة للتأثير على الأصوات الانتخابية. الأخطر أنه أقرّ بأن هذه الممارسات باتت “تقليدًا متعارفًا عليه في الدبلوماسية”، ما يعني أن الرشوة تمأسست داخل الأداء الخارجي لمصر.

كما أشار التسريب إلى وجود فساد داخلي في مكتب الوزير نفسه، وتورط مسؤولين في وزارة الخارجية في إدارة عمليات غير مشروعة تتعلق بالتمويل والهدايا المرسلة باسم الدولة المصرية، مما يطعن في مصداقية الحملة التي أوصلت عناني إلى المنصب الأممي.


 

 

فوز تاريخي بظل فساد مؤسسي
ورغم الضجة، فاز خالد عناني في أكتوبر 2025 بمنصب المدير العام لليونسكو، بعد حصوله على 55 صوتًا من أصل 57، ليصبح أول مصري وعربي يتولى المنصب.

غير أن هذا الفوز، الذي احتفت به الحكومة المصرية ووسائلها الإعلامية باعتباره “إنجازًا حضاريًا”، جاء في وقت تتناقل فيه وسائل الإعلام المستقلة والمعارضة وثائق وتسجيلات تؤكد أن الحملة التي قادتها الخارجية المصرية كانت مشوبة بتجاوزات مالية ودبلوماسية.
وبذلك تحوّل “الفوز التاريخي” إلى عنوان جدلي حول استخدام الفساد كأداة من أدوات النفوذ السياسي، في وقت تعاني فيه مؤسسات الدولة من انهيار الثقة والمساءلة.
 

سجل مثير للجدل: إنجازات على الورق واتهامات بالتدمير
على الرغم من الصورة الأكاديمية التي يقدمها خالد عناني — كعالم مصريات وأستاذ جامعي من مواليد الجيزة عام 1971 — إلا أن تاريخه الوزاري مثقل بملفات مثيرة للجدل.

فخلال توليه وزارة الآثار ثم السياحة والآثار (2016–2022)، اتُهم عناني بأنه ساهم في تدمير مواقع أثرية حساسة عبر قرارات تطوير عشوائية ومشروعات تجارية داخل مناطق تراثية محمية. كما تم اتهامه من قبل باحثين وخبراء آثار بـإخراج قطع أثرية ومقابر ملكية من السجلات الرسمية، ما سهّل تهريبها لاحقًا إلى الخارج.

تقارير استقصائية بثتها قناة مكملين وعدة وسائل إعلام مستقلة أشارت إلى أن فترة عناني شهدت اختفاء قطع أثرية نادرة وضعفًا في منظومة الحماية، فضلًا عن توسع شبكات الفساد الإداري داخل الوزارة، مما أدى إلى فقدان الثقة في مؤسسات الدولة المسؤولة عن حماية التراث المصري.
 

دبلوماسية مشبوهة تحت شعار “الثقافة العالمية”
يرى مراقبون أن ترشيح عناني للمنصب الأممي لم يكن انعكاسًا لكفاءته العلمية بقدر ما كان جزءًا من إستراتيجية سياسية لتجميل صورة النظام المصري دوليًا.
ففي حين يعاني الداخل من انهيار ثقافي وتهميش للعلماء والفنانين، جرى تقديم عناني للعالم كـ“رمز للتراث المصري”، في حملة إعلامية مكثفة شاركت فيها السفارات والمؤسسات الرسمية.

لكن ما تكشف لاحقًا من تسريبات حول استخدام الهدايا والرشاوى يعيد تعريف مفهوم “الدبلوماسية الثقافية” التي تمارسها القاهرة، لتتحول من وسيلة للحوار الحضاري إلى أداة للنفوذ القائم على الفساد والمال السياسي.
 

مفارقة بين الداخل والخارج
تبدو المفارقة صارخة: ففي الوقت الذي يحتفل فيه النظام بفوز خالد عناني كدليل على “احترام المجتمع الدولي لمصر”، تعاني البلاد داخليًا من نزيف مستمر في تراثها وتاريخها الأثري، ومن تراجع دور العلماء الحقيقيين الذين رفضوا التطبيع مع الفساد.

كما أن صمت المؤسسات الدولية عن شبهات الفساد التي أحاطت بعملية الترشيح يثير تساؤلات حول مدى نزاهة آليات الاختيار داخل المنظمات الأممية نفسها، التي ربما تخضع – مثل الحكومات – لتوازنات النفوذ السياسي والمالي أكثر من معايير الكفاءة والنزاهة.

وأخيرا يظهر صعود خالد عناني إلى قمة الهرم الثقافي العالمي كمرآة مزدوجة تعكس وجهين لمصر اليوم: وجه رسمي مزيّن بالإنجازات والاحتفالات الدبلوماسية، ووجه آخر غارق في الفساد والصفقات المغلقة.
فبين تسريبات تفضح استغلال المال العام واتهامات بتدمير التراث، يظل سؤال الشرعية يطارد هذا المنصب الأممي الذي يفترض أن يجسد القيم الأخلاقية للثقافة والتعليم.

وفي النهاية، يبدو أن قصة عناني ليست فقط عن رجل صعد بالفساد، بل عن نظام يستخدم الثقافة كغطاء لتبييض سمعته الدولية، في وقت تتآكل فيه الحضارة الحقيقية التي يدّعي حمايتها.