من جديد، يحتفي إعلام السلطة بما يسميه “إنجازًا مصريًا تاريخيًا”، عقب فوز خالد العناني بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، بوصفه تجسيدًا لـ“الدبلوماسية الناعمة” التي يتفاخر بها نظام عبد الفتاح السيسي. غير أن هذا الاحتفاء بدا لكثيرين مجرد محاولة لتغطية فشل استراتيجي مستمر منذ أكثر من عقد في ملف سد النهضة، أحد أكثر القضايا مصيرية للأمن القومي المصري ما اعترها البعض بأنها دبلوماسية مأجورة.
بينما انشغل النظام بإخراج المشهد الاحتفالي في باريس، ظلّ المشهد الحقيقي على ضفاف النيل ملبّدًا بالتوتر والعجز، حيث لا تزال إثيوبيا تمضي في ملء وتشغيل السد دون اتفاق مُلزِم، فيما تكتفي القاهرة بالبيانات الدبلوماسية الفارغة من النتائج.
تتويج شكلي لا يغيّر المضمون
فوز خالد العناني بـ55 صوتًا من أصل 57 في انتخابات اليونسكو قُدّم في الإعلام الموالي بوصفه “تصويتًا كاسحًا” ودليلًا على “ثقة العالم في القيادة المصرية”. لكن خلف هذه العناوين، يتكشف سؤال أكبر: ماذا يعني أن تفوز القاهرة بمنصب أممي رمزي بينما تفشل في حماية شريان حياتها المائي؟
العناني، الذي شغل مناصب وزارية في حكومات السيسي، لم يكن بعيدًا عن منظومة التدهور التي طالت ملف الآثار والسياحة داخل مصر. واليوم، يُقدَّم في الخارج كـ“وجه حضاري”، رغم الاتهامات التي لاحقته خلال توليه وزارة الآثار، خاصة فيما يتعلق بملفات تهريب القطع الأثرية والإدارة العشوائية للمواقع التراثية.
الدعاية الرسمية: “القوة الناعمة” بدل القوة الحقيقية
الإعلامي نشأت الديهي انبرى لتصوير الحدث باعتباره تتويجًا لـ“حنكة الرئيس”، ومؤشرًا على “عودة مصر إلى الريادة العالمية”، مستعملًا خطابًا دعائيًا يتجاهل الواقع المأزوم. في هذا الخطاب، تُستبدل الحقائق الرمادية بشعارات التمجيد، ويُختزل الأداء الخارجي في صورة ترويجية للسيسي أكثر منه لمصر.
اللغة الإعلامية السائدة تتحدث عن “رقم قياسي في الأصوات” و“ثقة العالم في مصر”، بينما يتجاهل الخطاب الرسمي حقيقة أن هذه الثقة لم تُترجم في أي ضغط دولي فعلي على إثيوبيا أو إنجاز قانوني يحمي الحقوق المائية المصرية.
نقد المعارضة: إنجاز على الورق وفشل في النهر
الإعلامي المعارض محمد ناصر قاد حملة سخرية من رواية النظام، مؤكدًا أن “الدبلوماسية الناعمة تحوّلت إلى ناعمة نائمة”، وأن فوز العناني ليس إلا واجهة براقة تُستخدم لتزيين مشهد داخلي مأزوم. فكيف يُقاس النجاح — يسأل ناصر — إذا كانت المياه تُحتجز خلف السد، والمزارعون يعانون العطش، والدولة تروّج لفوز في باريس؟
المعارضة ترى أن السيسي يوظف “القوة الناعمة” كأداة دعائية لتجميل إخفاقاته في ملفات مصيرية. إذ لم تحقق القاهرة أي اختراق في مسار التفاوض رغم مرور أكثر من 10 سنوات على بدء الأزمة، فيما توسعت أديس أبابا في البناء والتشغيل دون أن تواجه أي رد مصري حاسم.
الواقع المائي: بيانات بلا نتائج
بحسب الوقائع، استمرت إثيوبيا في الملء والتشغيل الأحادي، فيما اكتفت مصر بإرسال شكاوى إلى مجلس الأمن، في مشهد يراه كثيرون انعكاسًا لعجز سياسي ودبلوماسي. الخطاب الرسمي عن “ضبط النفس” و“الحكمة” بات غطاءً لغياب الإرادة، خاصة بعد أن فقدت القاهرة أوراق الضغط الإقليمية التي كانت تمتلكها سابقًا.
لقد تحوّل سد النهضة إلى مرآة تعكس حدود نفوذ السيسي، وتفضح تآكل أدواته في التفاوض، بعد أن استنزفت الدعاية الإعلامية صورة “القائد القوي” في الداخل والخارج.
بين الرمز الثقافي والعجز المائي
فوز العناني في اليونسكو لا يغيّر حقيقة أن مصر تواجه أخطر أزمة وجودية في تاريخها الحديث. فالقوة الناعمة لا تُقاس بعدد المقاعد في المنظمات الأممية، بل بمدى القدرة على حماية المصالح الحيوية. وما لم تُترجم هذه “الإنجازات الرمزية” إلى مكاسب مادية في ملف المياه، فستظل مجرد ديكور لتجميل نظام غارق في العجز.
رمزية براقة تُخفي إخفاقًا عميقًا
من باريس إلى النيل الأزرق، يتضح التناقض بين الصورة التي يسعى السيسي لترويجها كقائد عالمي، وبين الواقع الذي يكشفه سد النهضة كرمز للفشل المزمن في إدارة الدولة. أما خالد العناني، فليس سوى أحد وجوه هذا النظام الذي يراكم المناصب الدولية بينما يخسر الملفات الوطنية.
فوز العناني لا يُخفي الحقيقة: “الدبلوماسية الناعمة” لم تنقذ نقطة ماء واحدة، ولا أوقفت ملء السد، ولا أعادت لمصر مكانتها في إفريقيا. إنها، في نهاية المطاف، سياسة ناعمة في الشكل... فارغة في المضمون.