بعد عامين من حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، يشكّل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة أمريكية ومصرية-قطرية نقطة تحوّل كبرى في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فبعيداً عن كونه هدنة إنسانية مؤقتة، يعكس الاتفاق فشلاً استراتيجياً إسرائيلياً غير مسبوق، وانتصاراً سياسياً وميدانياً واضحاً للمقاومة الفلسطينية التي نجحت في فرض نفسها طرفاً أساسياً في المعادلة الإقليمية.

الاتفاق الذي بُني على خطة قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جاء بعد حرب استنزاف طويلة دمّرت البنية التحتية في غزة وأربكت إسرائيل داخلياً، لكنه في جوهره يمثل اعترافاً ضمنياً بأن القوة العسكرية الإسرائيلية وصلت إلى حدودها القصوى دون تحقيق أهدافها. وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع، تنتقل فيها المواجهة من ساحات القتال إلى ميدان السياسة وإعادة الإعمار.

 

فشل الأهداف العسكرية الإسرائيلية

لم تتمكن إسرائيل خلال عامين من القتال العنيف من تحقيق أي من أهدافها المعلنة: لا القضاء على حركة حماس، ولا تفكيك بنيتها العسكرية، ولا فرض نظام أمني دائم في القطاع. وعلى الرغم من التفوق العسكري والتكنولوجي الساحق، فشلت إسرائيل في إخضاع غزة، واضطرت في النهاية إلى القبول باتفاق وقف النار بشروط متوازنة تمليها الضرورة أكثر مما تفرضها القوة.

ففي الوقت الذي كانت القيادة الإسرائيلية ترفع شعارات "الحسم الكامل"، وجدت نفسها أمام مقاومة متماسكة قادرة على القتال في ظروف الحصار والتجويع، وعلى إدارة الحرب بأسلوب استنزاف طويل المدى. فقد تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية ومادية فادحة، وأُجبر على الانسحاب من المناطق المأهولة بعد عجزه عن السيطرة عليها.

وتُعد صفقة تبادل الأسرى التي نص عليها الاتفاق – وتشمل الإفراج عن آلاف الفلسطينيين مقابل رهائن إسرائيليين – أبرز مؤشر على تحوّل ميزان القوة. فإسرائيل التي كانت ترفض مبدأ المساومة اضطرت هذه المرة إلى التفاوض من موقع الضعف، في محاولة لتخفيف الضغط الشعبي والسياسي المتصاعد داخلها.

 

عودة الشرعية السياسية للمقاومة

في البعد السياسي، يُعد الاتفاق اعترافاً دولياً بشرعية المقاومة الفلسطينية بعد سنوات من العزلة والحصار السياسي. فالمجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، وجد نفسه مضطراً للتعامل مع حماس كطرف لا غنى عنه في أي تسوية مستقبلية.

لقد فشلت محاولات واشنطن وتل أبيب في شيطنة حماس وتحويلها إلى كيان خارج القانون، وجاءت الحرب لتؤكد أنها القوة الفعلية التي تمثل الإرادة الفلسطينية في الميدان. وبذلك، اكتسبت المقاومة موقعاً سياسياً جديداً يوازي وزنها العسكري، وكسرت احتكار السلطة الفلسطينية للتمثيل الرسمي في المفاوضات.

ويقول مراقبون إن هذا التحول يعيد صياغة الخريطة السياسية في المنطقة، إذ لم يعد بالإمكان تجاوز حماس في أي مبادرة تخص غزة أو القضية الفلسطينية. كما أن الاعتراف الضمني بها كشريك في الحل ينسف السردية الإسرائيلية التي كانت تبرر العدوان بذريعة “مكافحة الإرهاب”.

 

تحديات ما بعد الاتفاق

مع ذلك، تدرك فصائل المقاومة أن المعركة لم تنتهِ بعد. فمرحلة ما بعد وقف النار قد تكون أكثر تعقيداً من الحرب نفسها، إذ ستتركز على قضايا إعادة الإعمار، ورفع الحصار، وتثبيت المكاسب السياسية التي تحققت.

وتخشى المقاومة من أن تلجأ إسرائيل إلى المماطلة في تنفيذ بنود الاتفاق أو فرض شروط اقتصادية وأمنية جديدة عبر الوسطاء الدوليين، في محاولة للالتفاف على النتائج الميدانية. لذلك، تستعد حماس والجهاد الإسلامي لمرحلة “المعركة السياسية” التي تتطلب توحيد الصف الفلسطيني، وضمان ألا تتحول الهدنة إلى فخ يعيد الحصار بأشكال جديدة.

من جهة أخرى، تسعى القاهرة والدوحة إلى ضمان استدامة الاتفاق وتجنب انهياره، خصوصاً مع تصاعد الضغوط الداخلية في إسرائيل والدعوات إلى إسقاط حكومة نتنياهو التي باتت تُتهم بالفشل الذريع. أما واشنطن، فتنظر إلى الاتفاق كفرصة لترميم صورتها في المنطقة بعد عامين من العجز عن وقف الحرب التي اتُهمت بدعمها سياسياً ولوجستياً.

وفي النهاية فاتفاق وقف إطلاق النار في غزة يعد انتصاراً معنوياً وسياسياً للمقاومة الفلسطينية، وتأكيداً على أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لفرض الاستسلام. فبعد عامين من الدمار الهائل، خرجت غزة مثخنة بالجراح لكنها مرفوعة الرأس، بعدما أجبرت إسرائيل والعالم على الاعتراف بحقوقها وموقعها في معادلة الصراع.

أما إسرائيل، فقد خسرت أكثر من معركة؛ خسرت هيبتها العسكرية، وتصدعت جبهتها الداخلية، واهتزت صورتها أمام العالم. وبينما تحاول واشنطن تسويق الاتفاق كخطوة نحو “السلام”، يدرك الجميع أن ما حدث لم يكن سوى هدنة تفرضها موازين جديدة، عنوانها الأبرز: غزة صمدت… وإسرائيل فشلت.