في تحول تاريخي غير مسبوق، تشهد الولايات المتحدة واحدة من أعمق المراجعات الأخلاقية والسياسية في تاريخها الحديث تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فبعد عقود من الدعم الأعمى لإسرائيل، تكشف استطلاعات الرأي الأخيرة عن انهيار حاد في التعاطف الأمريكي مع إسرائيل وصعود غير مسبوق في الدعم الشعبي للفلسطينيين. هذا التحول، الذي وصفه محللون بأنه “زلزال في الوعي الأمريكي”، جاء نتيجة مباشرة لمجازر غزة التي استمرت لعامين، وفضحت زيف الدعاية الإسرائيلية التي سيطرت على الإعلام الغربي لعقود.
تراجع غير مسبوق في دعم إسرائيل
الأرقام التي أظهرتها استطلاعات مؤسسات كبرى مثل غالوب وبيو للأبحاث لا تترك مجالاً للشك: الرأي العام الأمريكي تغيّر جذرياً. ففي عام 2023، كان نحو 50% من الأمريكيين يتعاطفون مع إسرائيل مقابل 30% فقط مع الفلسطينيين. لكن مع حلول عام 2025، انخفض التعاطف مع إسرائيل إلى 46% فقط، بينما ارتفع التعاطف مع الفلسطينيين إلى 35%، وهو أول انقلاب من نوعه في تاريخ استطلاعات الرأي الأمريكية منذ أكثر من عقدين.
الأكثر دلالة هو أن 80% من الأمريكيين باتوا يؤيدون وقفاً فورياً للحرب على غزة، وفق استطلاع مشترك بين جامعة هارفارد ومؤسسة “Data for Progress”، في إشارة إلى تراجع القبول الشعبي للخطاب الرسمي الذي يبرر العدوان تحت شعار “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”.
التحول الحزبي والجيلي: من الديمقراطيين إلى الجيل الشاب
يبدو التغيير أكثر عمقاً عند تحليل الفروق بين الانتماءات الحزبية والفئات العمرية.
داخل الحزب الديمقراطي، تراجعت نسبة المتعاطفين مع إسرائيل إلى 33% فقط، بينما ارتفعت نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين إلى أكثر من 50%، وهي المرة الأولى التي يصبح فيها الفلسطينيون الطرف الأكثر شعبية داخل القاعدة الديمقراطية. كما أن 53% من الديمقراطيين يعتقدون أن الدعم الأمريكي لإسرائيل “مفرط وغير مبرر”، في انعكاس لتحول أخلاقي وسياسي كبير داخل الحزب.
جيل "زد" (Gen Z)، أي الشباب تحت سن 35 عاماً، يمثل القوة الدافعة لهذا التحول. فقد أظهرت استطلاعات أن 63% من الشباب الأمريكيين يتعاطفون مع الفلسطينيين، بينما يرى 61% منهم أن إسرائيل دولة تمارس سياسات عنصرية. هؤلاء الشباب لم يتأثروا بالدعاية القديمة التي صورت إسرائيل كدولة “ديمقراطية محاصرة”، بل شاهدوا بأعينهم صور المجازر اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعلهم أكثر وعياً بحقائق الاحتلال.
أما في الحزب الجمهوري، ورغم بقاء إسرائيل ضمن أولويات القاعدة المحافظة، فقد بدأت مؤشرات التآكل بالظهور. فقد انخفضت نسبة الجمهوريين الذين يرون أن الدعم لإسرائيل “غير كافٍ” من 40% إلى 14% فقط خلال عام واحد، وهو تحول يعبّر عن بداية تشقق في الجدار الحديدي الذي كان يحمي تل أبيب سياسياً داخل الولايات المتحدة.
الصورة أقوى من الدعاية
السبب الأعمق لهذا التحول لا يكمن في السياسة وحدها، بل في قوة الصورة والحقيقة العارية. فقد فشلت آلة الدعاية الإسرائيلية، المدعومة من كبرى المؤسسات الإعلامية الأمريكية، في السيطرة على رواية الحرب. ومع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت صور القصف والمجازر تُبث مباشرة إلى شاشات الأمريكيين، دون فلاتر أو رقابة.
لقد شاهد الملايين أطفال غزة تحت الأنقاض، وشهدوا بأعينهم ما وصفته منظمات حقوق الإنسان بأنه إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة. هذه المشاهد ضربت في الصميم الخطاب الرسمي الذي طالما استخدم مبررات أمنية لتبرير العنف الإسرائيلي.
كما لعب الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية دوراً مركزياً في إعادة صياغة الوعي العام. من هارفارد إلى كولومبيا إلى ستانفورد، خرجت مظاهرات واعتصامات ضخمة ضد تمويل الجامعات للشركات الداعمة للاحتلال، في مشهد يعيد إلى الأذهان حركات مقاومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لقد نجح هؤلاء الطلاب في نزع الغطاء الأخلاقي عن إسرائيل وتحويل النقاش الوطني من قضية أمنية إلى قضية حقوق إنسان وعدالة.
وأخيرا فقد حطمت مجازر غزة الأسطورة التي روّجت لها الدعاية الإسرائيلية لعقود عن “الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. وبات واضحاً أن الرأي العام الأمريكي لم يعد يشتري تلك الرواية. فدماء الأطفال التي سالت في غزة نجحت فيما فشلت فيه السياسة: كسر الصمت الأمريكي وإعادة تعريف الأخلاق في زمن الاحتلال.