في الوقت الذي يعيش فيه ملايين المصريين تحت ضغط الغلاء، وتزداد فيه معاناة الطبقات المتوسطة والفقيرة من تآكل الدخول وارتفاع الأسعار، أطلقت حكومة مصطفى مدبولي بالتعاون مع شركة "طيران أبو ظبي" مشروع خدمة “إير تاكسي” في القاهرة وبعض المدن السياحية. الخدمة التي يُفترض أنها تمثل “قفزة تكنولوجية في النقل الجوي”، تحولت في نظر كثيرين إلى رمز للفجوة الطبقية وغياب الرؤية الاقتصادية المنصفة.

الخدمة تتيح التنقل السريع بين المناطق الحيوية داخل القاهرة والمدن السياحية الكبرى مثل الغردقة والأقصر وسيوة، لكن بأسعار لا يمكن وصفها إلا بالخيالية. رحلة قصيرة إلى الأهرامات قد تصل إلى 200 دولار، بينما تبلغ تكلفة الرحلة من القاهرة إلى سيوة نحو 1500 دولار، وهي أرقام تفوق متوسط دخل المواطن المصري لعدة أشهر.

 

مشروع في غير زمانه ومكانه

المثير للجدل أن المشروع أُطلق في سياق اقتصادي مأزوم: تضخم مرتفع، وديون متزايدة، وتراجع مستمر في قيمة الجنيه المصري، إلى جانب عجز حكومي مزمن عن تحسين الخدمات الأساسية مثل النقل العام، والتعليم، والصحة. ورغم كل ذلك، اختارت الحكومة الدخول في شراكة لتقديم خدمة موجهة عمليًا إلى أقل من 1% من السكان، متجاهلة أولويات الأغلبية التي تبحث عن وسيلة مواصلات آمنة وبأسعار معقولة.

تبدو المفارقة صارخة عندما نقارن هذا الاستثمار بخطط تطوير المواصلات الأرضية المتعثرة. فبينما تعاني قطارات الصعيد من الحوادث وسوء البنية التحتية، وتزدحم شوارع القاهرة بوسائل نقل متهالكة، تتباهى الحكومة بمشروع “إير تاكسي” الذي لا يستفيد منه المواطن العادي.
 

من يستطيع الطيران؟

تُظهر الإحصاءات الرسمية أن متوسط الدخل الشهري للفرد المصري يتراوح بين 150 و250 دولارًا، أي أن مجرد رحلة قصيرة بطائرة الإيجار قد تكلف المواطن دخله الشهري أو أكثر. بذلك، فإن الفئة الوحيدة القادرة على استخدام الخدمة هي الطبقة الثرية جدًا وبعض رجال الأعمال وكبار المسؤولين، وربما شريحة محدودة من السياح الأجانب.

وفق تقارير الثروة العالمية، لا يتجاوز عدد المليونيرات في مصر بضعة آلاف، فيما يتركز معظم رأس المال في أيدي عائلات محدودة مثل ساويرس ومنصور. هذه التركيبة تجعل من “الإير تاكسي” خدمة موجهة حصرًا للنخبة الاقتصادية، ما يعمّق الإحساس بانفصال السياسات الحكومية عن واقع الشارع المصري.
 

بين استثمارات النخبة واحتياجات الشعب

في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن “تنمية شاملة” و”عدالة اجتماعية”، تواصل إطلاق مشاريع فاخرة تستهدف السياح والأثرياء، بينما تتراجع جودة الخدمات التي تمس حياة المواطن اليومية. فهل تحتاج مصر اليوم إلى "إير تاكسي"، أم إلى شبكة نقل عام متطورة بأسعار عادلة؟

الناقدون يرون أن هذه المشاريع ليست سوى محاولات تجميلية لتسويق صورة زائفة عن التقدم، بينما الواقع يشير إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وتدهور القدرة الشرائية. ويؤكد خبراء الاقتصاد أن غياب الشفافية في اختيار أولويات الاستثمار يعكس انحرافًا عن مفهوم التنمية المستدامة التي يفترض أن توازن بين النمو والعدالة.
 

الأجانب والسياح... الوجه الحقيقي للفئة المستهدفة

قد يجد بعض الأجانب، خاصة من دول الخليج وأوروبا، أن تكلفة هذه الخدمة معقولة قياسًا بقدرتهم الشرائية، خصوصًا وأنهم يشكلون الشريحة المستهدفة في المدن السياحية. لكن هذا يطرح سؤالًا جوهريًا: هل تعمل الحكومة من أجل خدمة المواطن أم السياح؟

بدلاً من تطوير النقل العام الذي يخدم ملايين المصريين يوميًا، توجه الدولة مواردها نحو خدمات نخبوية تستهدف القادرين على دفع آلاف الدولارات مقابل رحلة قصيرة. هذا التوجه يرسّخ الانقسام بين من يعيشون “فوق السحاب” ومن يقضون ساعات في المواصلات المتهالكة.
 

غياب العدالة في السماء

إطلاق “إير تاكسي” في بلد يرزح تحت أعباء معيشية خانقة لا يبدو إنجازًا تنمويًا، بل مؤشرًا على سوء إدارة الأولويات الاقتصادية. فالمواطن الذي لا يجد الوقود أو المواصلات المناسبة لن يشعر بالفخر لوجود طائرة مروحية تقل رجال الأعمال إلى المنتجعات.

وفي النهاية، يكشف هذا المشروع عن عجز حكومي مزمن في فهم حاجات المجتمع، وانشغال متزايد بتلميع صورة الرفاهية بدل مواجهة التدهور المعيشي. فبينما تحلّق الحكومة في سماء الرفاهية، يبقى المواطن المصري عالقًا على الأرض، ينتظر حلاً لأزماته الحقيقية لا رحلة خيالية لا يملك ثمنها.