تعيش القاهرة وعدة محافظات مصرية على وقع أزمة بيئية خانقة مع عودة السحابة السوداء التي تخنق الأجواء كل خريف، نتيجة تصاعد حرق قش الأرز بعد موسم الحصاد.
المشهد يتكرر سنويًا دون أن تنجح الحكومة في وضع حدٍّ لهذه الكارثة المزمنة، رغم كل الشعارات والخطط المعلنة.
ومع تصاعد الدخان الكثيف فوق الدلتا والعاصمة، تتصاعد أيضًا شكاوى المواطنين من تدهور جودة الهواء وصعوبات التنفس، وسط غياب واضح للإرادة السياسية في معالجة الأسباب من الجذور.
فتوى الأزهر
الضغط الشعبي والقلق الصحي المتزايد دفَعا مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية لإصدار فتوى رسمية تحرِّم حرق قش الأرز شرعًا، واعتبرته من صور "الإفساد في الأرض". وأكدت الفتوى أن الفعل لا يضر صاحبه فقط، بل يصيب المجتمع كله بأذى جسيم، ويهدد البيئة والصحة العامة، مشيرةً إلى أن الإسلام يدعو لحماية الحياة من الضرر. واستشهدت بأحاديث النبي ﷺ: “لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله”.
الفتوى لم تأتِ من فراغ، بل عكست حالة الاحتقان الشعبي والبيئي المتفاقمة. غير أن اللافت هو أن المؤسسة الدينية كانت أكثر حسمًا من أجهزة الدولة التنفيذية، التي اكتفت – كعادتها – بإطلاق بيانات وتصريحات عامة دون محاسبة حقيقية أو رؤية منهجية لإدارة الأزمة.
كارثة صحية تتفاقم
وفقًا لخبراء البيئة والصحة العامة، تمثل السحابة السوداء أحد أخطر أنواع تلوث الهواء في مصر، إذ تكشف الدراسات عن آثار صحية خطيرة تمتد من ضيق التنفس والربو المزمن إلى التهابات العين وأمراض الكلى والجهاز العصبي. ويُعد الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي الأكثر عرضة للأضرار، فيما تسجل المستشفيات كل خريف ارتفاعًا حادًا في الحالات المرتبطة بتلوث الهواء.
هذه الأرقام الصادمة لا تجد أمامها استجابة توازي حجم الخطر. فالحكومة ما زالت تتعامل مع الظاهرة بوصفها موسمية، رغم أنها باتت قضية أمن صحي وبيئي تمس ملايين المصريين.
سياسات حكومية محدودة الأثر
من الناحية الرسمية، تشير وزارة البيئة إلى تنفيذ حملات ميدانية بالتعاون مع المحافظات، لتجميع وكبس قش الأرز وتوعية الفلاحين، بجانب تشديد الرقابة وتغليظ العقوبات على المخالفين. كما تؤكد الوزارة أن برامجها لتدوير القش إلى سماد عضوي أو وقود حيوي ساهمت في تقليل الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء.
لكن الواقع يقول غير ذلك. فالمشهد في الدلتا لا يختلف عن الأعوام السابقة: أعمدة دخان تمتد على مد البصر، وانعدام شبه تام للرؤية ليلاً في بعض القرى، وانبعاث روائح خانقة، في ظل غياب متابعة ميدانية حقيقية. كثير من الفلاحين يفضلون الحرق لتقليل تكلفة النقل، بينما لا يجدون حوافز كافية لتسليم القش لمراكز التجميع، وهو ما يفضح فشل الحكومة في بناء منظومة اقتصادية مستدامة تعوّضهم عن الخسائر.
تجارب محلية ناجحة... دون تعميم
بعض المحافظات مثل القليوبية حققت نجاحًا نسبيًا في إنشاء مراكز لتجميع وتصنيع القش وتحويله إلى منتجات قابلة للتصدير، مع تقديم مقابل مادي للفلاحين. إلا أن التجربة بقيت محصورة جغرافيًا، دون خطة وطنية لتعميمها على باقي المحافظات الزراعية. وبذلك، تتحول النجاحات الجزئية إلى مجرد استثناءات تؤكد فشل المنظومة المركزية في التخطيط والتنفيذ.
أزمة وعي أم أزمة إدارة؟
بينما تُلقي الحكومة باللوم على المزارعين، يرى خبراء التنمية البيئية أن المشكلة أعمق من مجرد “سلوك خاطئ”. فغياب الحوافز الاقتصادية، وسوء التخطيط الزراعي، وتراخي الأجهزة المحلية في الرقابة، جميعها أسباب تُغذي استمرار الكارثة. كما أن ضعف الوعي البيئي لا يمكن معالجته دون إعلام حر، وتعليم بيئي منهجي، وسياسات شفافة تضع المواطن شريكًا لا متَّهَمًا.
المواطن يدفع الثمن
في نهاية المطاف، يبقى المواطن المصري هو من يدفع ثمن فشل الإدارة الحكومية في مواجهة ظاهرة عمرها أكثر من عقدين. فبينما تنشغل الوزارات بإصدار البيانات وتبادل اللوم، يستنشق المصريون هواءً سامًا كل خريف، وتغرق المدن في ضباب خانق من العجز والإهمال.
السحابة السوداء ليست مجرد ظاهرة موسمية، بل مرآة لعجز دولة عن حماية صحة مواطنيها وبيئتها، وإشارة واضحة إلى أن التنمية المستدامة في مصر ما زالت حبرًا على ورق، وأن أول خطوة لمكافحة التلوث تبدأ من الاعتراف بأن الأزمة ليست في الهواء فقط… بل في الإدارة نفسها.