في مشهد يعكس تحوّل الخطاب الرسمي المصري من لغة التهدئة إلى التلويح، أطلق قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي تصريحات حادة خلال أسبوع القاهرة للمياه، مؤكّدًا أن مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي" أمام ما وصفه بـ"النهج غير المسؤول" لإثيوبيا في إدارة سد النهضة. غير أن هذه الرسائل التحذيرية، التي تحمل لهجة التهديد لأول مرة منذ سنوات، أعادت إلى الواجهة الانتقادات الموجهة إلى السيسي نفسه، باعتباره المسؤول الأول عن توقيع اتفاق إعلان المبادئ عام 2015 الذي منح أديس أبابا الغطاء القانوني والسياسي لبناء السد واستكمال ملئه دون قيود فعليّة.
لغة جديدة بعد عقد من الصمت
في كلمته المسجلة التي أذيعت في الجلسة الافتتاحية لـ أسبوع القاهرة الثامن للمياه يوم 12 أكتوبر 2025، شدد السيسي على أن قضية المياه تمثل "قضية وجودية تمس حياة أكثر من 100 مليون مصري"، وأن مصر "ستتخذ جميع الإجراءات اللازمة لحماية أمنها المائي".
وقال السيسي إن بلاده تواجه "تحديات جسيمة"، بعدما أصبحت ضمن أكثر دول العالم ندرة مائية، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد نصف خط الفقر المائي المحدد عالميًا. كما أعلن رفض مصر القاطع لأي "إجراءات أحادية الجانب" في إدارة نهر النيل، معتبرًا أنها تخالف القوانين الدولية وتضر بمصالح دول الحوض، موجّهًا الاتهام المباشر إلى إثيوبيا بـ"التعنت وفرض الأمر الواقع" بعد 14 عامًا من التفاوض غير المثمر.
🚨⚡️ عـاجـل وغـير عـادي:
— الموجز الروسي | Russia news 🇷🇺 (@mog_Russ) October 12, 2025
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوجّه تحذيراً شديداً لإثيوبيا:
"مصر لن تقف مكتوفة الأيدي أمام النهج غير المسؤول الذي تتبعه إثيوبيا."
- "القاهرة سعت 14 عاماً لاتفاق قانوني شامل، أدعو لمواجهة التصرفات الإثيوبية المتهورة." pic.twitter.com/7bNDYau5v9
لكن اللافت في هذه التصريحات هو تحولها من لغة "الالتزام الدبلوماسي" التي تبناها النظام منذ توقيع اتفاق الخرطوم، إلى نبرة تحذير صريحة من اتخاذ خطوات غير محددة ضد الطرف الإثيوبي. وهو ما فسره مراقبون بأنه اعتراف متأخر بفشل المسار السياسي والدبلوماسي الذي قاده النظام طوال العقد الماضي.
اتفاق 2015.. من منطلق "بناء الثقة" إلى "تضييع الحقوق"
يرى خبراء القانون والمياه أن جوهر الأزمة لا يكمن فقط في سلوك إثيوبيا، بل في التفريط السياسي المصري المبكر الذي بدأ بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015. فقد اعتُبر ذلك الاتفاق، الذي وقعه السيسي مع قادة السودان وإثيوبيا، بمثابة "الوثيقة المؤسسة للأزمة الحالية"، لأنه غيّر الموقف المصري من الرفض المبدئي للسد إلى القبول به كأمر واقع.
وبموجب الاتفاق، حصل السد على شرعية دولية وسياسية لم تكن متاحة من قبل، إذ نصت البنود على مبادئ عامة مثل "الاستخدام المنصف والعادل" و"عدم الإضرار البالغ"، لكنها تجاهلت تمامًا الإشارة إلى الاتفاقيات التاريخية التي كانت تضمن لمصر حصتها من مياه النيل منذ 1929 و1959.
كما أن الاتفاق لم يتضمّن آليات إلزام قانونية لتسوية النزاعات أو ضمان الالتزام بقواعد الملء والتشغيل، ما سمح لإثيوبيا بإتمام خمس مراحل من الملء دون تنسيق فعلي مع القاهرة. وهكذا تحوّل ما رُوِّج له وقتها على أنه "صفحة جديدة من التعاون الإفريقي" إلى باب مفتوح لإهدار حقوق مصر المائية.
من “الشريك في السلام” إلى “الضحية في التفاوض”
حين وقع السيسي الاتفاق في 2015، كان الخطاب الرسمي يركّز على "التفاهم وبناء الثقة"، في إطار سعيه لتحسين صورته دوليًا وإظهار مصر كدولة منفتحة على الحلول السلمية. غير أن مرور عشر سنوات أظهر أن الرهان على النوايا الإثيوبية كان خاسرًا.
إذ استخدمت أديس أبابا الاتفاق كدرع دبلوماسي، بينما استغلت ضعف الموقف المصري لاستكمال البناء والملء والتشغيل دون التوصل إلى اتفاق شامل، مستفيدة من غياب الضمانات القانونية التي كان من المفترض أن تصر القاهرة عليها منذ البداية.
ويرى محللون أن تصريحات السيسي الأخيرة تمثل محاولة لتجميل الموقف السياسي المتآكل، وإعادة توجيه الغضب الشعبي نحو الطرف الإثيوبي بدلًا من مساءلة النظام عن أخطائه التفاوضية.
مشروعات داخلية.. معالجة أزمة صنعها القرار السياسي
في مواجهة العجز المائي المتزايد، استعرض السيسي في خطابه مجموعة من المشروعات الضخمة لمعالجة الأزمة، مثل محطات معالجة مياه الصرف الزراعي في "بحر البقر" و"المحسمة" و"الدلتا الجديدة"، إضافة إلى تطوير نظم الري وتأهيل الترع.
لكن رغم أهميتها التقنية، يرى الخبراء أن هذه المشروعات لا تعالج أصل المشكلة، بل تمثل "حلاً مكلفًا لنتائج فشل سياسي"، إذ أن الحفاظ على الأمن المائي لا يمكن تعويضه بالتحلية والمعالجة فقط، بل بالسيادة على منابع النهر وضمان الحقوق التاريخية.
تحذير متأخر وثمن باهظ
بعد عقد من توقيع اتفاق المبادئ، تبدو تصريحات السيسي الأخيرة وكأنها اعتراف ضمني بالخطأ، ومحاولة متأخرة لاستعادة ما فُقد من أوراق الضغط. فبينما كانت إثيوبيا تبني السد وتملؤه، ظلت القاهرة تراهن على الوعود الدولية والمفاوضات العبثية.
واليوم، وبعد أن أصبح نهر النيل رهينة القرارات الإثيوبية، يعود النظام المصري إلى خطاب التهديد الذي فقد صدقيته، في وقت يدفع فيه الشعب المصري ثمنًا باهظًا لسياسات التفريط التي بدأت بتوقيع قلم، وانتهت بأزمة وجودية تهدد حاضر البلاد ومستقبلها.