في مشهدٍ يُلخّص مأساة التخطيط العمراني في مصر، تحوّلت جولة عادية في شارع أبو قير بالإسكندرية إلى مصدر انقباضٍ وغضبٍ لدى سكان المدينة. الشارع العريق الذي يمتد من باب شرقي حتى المندرة، مرورًا بسيدي جابر ورشدي، لم يعد كما كان.
يد “التطوير” التي وعدت بتخفيف الزحام المروري، امتدت لتقطع أشجارًا عتيقة عمرها عشرات السنين وتطمس ملامح شارعٍ شكّل جزءًا من هوية المدينة وذاكرتها.
حتى وقتٍ قريب، كان شارع أبو قير متنفسًا طبيعيًا للسكندريين. ظلال أشجاره الكثيفة كانت تحمي المارة من حرارة الصيف وتضفي على الطريق طابعًا مميزًا يعكس روح الإسكندرية القديمة. أما اليوم، فقد تقلص الرصيف وتحوّل السير عليه إلى مغامرة محفوفة بالحجارة ومخلفات التكسير، بعد أن قُطعت الأشجار واستُبدلت بمساحات إسفلتية أوسع لحركة السيارات.
أثارت صور الأشجار المقطوعة – التي التقطها مصورون محليون في أغسطس 2025 – غضبًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، دفعت محافظة الإسكندرية إلى إصدار بيانات متكررة تزعم أن الأشجار “لم تُقطع بل نُقلت بجذورها لإعادة زراعتها لاحقًا”. لكن الصور كانت أبلغ من التصريحات، إذ أظهرت جذوعًا مقطوعة بالمنشار لا تمت بصلة إلى عمليات “القلع والنقل” التي تتحدث عنها المحافظة.
الخبير الزراعي الدكتور نادر نور الدين وصف المشهد بأنه “جريمة بيئية مكتملة الأركان”، مؤكدًا أن الأشجار لم تُقتلع كما تدّعي المحافظة، بل قُطعت تمامًا، وهو ما يجعل إعادة زراعتها مستحيلًا. وأضاف أن تلك الأشجار كانت سليمة وعفية، لا “مريضة” كما زعمت بيانات المسؤولين، مشيرًا إلى ضرورة التزام الحكومة بقرارات الأمم المتحدة التي تفرض زراعة شجرتين مقابل كل شجرة تُزال من المناطق الحضرية.
لكن في مشروع توسعة طريق “الحرية – أبو قير”، لا يبدو أن البيئة ضمن أولويات الحكومة. فالمحافظة تتباهى بزيادة الحارات المرورية لكل اتجاه إلى ثماني حارات “للقضاء على الاختناق”، متجاهلة أن حلولها المؤقتة لا تُعالج جوهر الأزمة.
المهندس المعماري مجدي صباغ يرى أن “زيادة الحارات ليست حلًا بل مسكّنًا مؤقتًا”، لأن عدد السيارات يتزايد بسرعة تفوق قدرة أي طريق على الاستيعاب.
ويؤكد أن الحل يكمن في “تطوير منظومة النقل العام”، مقترحًا تخصيص حارتين في شارع أبو قير لحافلات النقل الترددي بديلًا عن الميكروباص والتاكسي، وهو ما تطبقه مدن كبرى مثل إسطنبول وأثينا حفاظًا على تراثها الحضري.
ويتفق معه المعماري محمد المحمدي الذي يلفت إلى أن المحافظة “اختارت الحل الأسهل والأسرع على حساب الأرصفة والمشاة”، محذرًا من الخطر المحدق بطلاب المدارس الثلاث المطلة مباشرة على الشارع، خاصة مع غياب الأرصفة وتحوّل الطريق إلى مسار سريع.
من جانبه، يصف الخبير البيئي الدكتور ماهر عزيز ما يجري بأنه “عبث بيئي”، مشيرًا إلى أن كل شجرة تُقطع في بلدٍ صحراوي مثل مصر هي خسارة فادحة. فالمساحات الخضراء في البلاد محدودة أصلًا وتشكل أقل من 4% من إجمالي مساحة مصر، ومع استمرار التوسع الإسفلتي تتقلص حصة الفرد منها إلى مستويات كارثية.
تشير بيانات وزارة البيئة إلى أن نصيب المواطن المصري من المساحات الخضراء لا يتجاوز 1.2 متر مربع، مقابل 9 أمتار مربعة توصي بها منظمة الصحة العالمية. وفي الإسكندرية تحديدًا، لا تغطي المساحات الخضراء العامة سوى 15% من المعدل الطبيعي، أما في حي شرق الذي يمر به شارع أبو قير، فلا يزيد نصيب الفرد عن 0.66 متر فقط، رغم وجود حديقة أنطونيادس وحديقة الحيوان ضمن نطاقه.
ومع بداية العام الدراسي الجديد، لا يشعر سكان الإسكندرية بأي تحسن في المرور بعد شهور من الحفر والضوضاء. فحالة الارتباك المروري ما زالت على حالها، بينما اختفى الرصيف الذي كان يومًا مكانًا آمنًا للمارة.
وهكذا، يكتشف السكندريون أن “التطوير” الذي وُعدوا به لم يترك لهم شارعًا أجمل أو مدينة أنظف، بل طريقًا أوسع وأكثر صخبًا وأقل خضرة. أما الأشجار التي كانت يومًا رئة أبو قير، فقد سقطت ضحية سياسة تنظر إلى الإسفلت بوصفه إنجازًا، وإلى الظل الأخضر كعائقٍ أمام “المشروعات القومية”.